الأحد، 13 يناير 2013

التفكير الجانبي .. كسر للقيود المنطقية


 التفكير الجانبي .. كسر للقيود المنطقية


تأليف: إدوارد ديبـونو
ترجمة: نايف الخوص


منشورات وزارة الثقافة ـ الهيئة العامة السورية للكتاب 2010


توطئــــة


لماذا يأتي القليل من البشر بأفكار جديدة في حين لايفعل آخرون ذلك مع أنهم يتمتعون بدرجة الذكاء ذاتها؟
اعتُبِرَ التفكير المنطقي الشكل الأمثل لإعمال العقل منذ عصر أرسطو إلى أن تبين أن الأفكار الجديدة وما فيها من مناورة لم تتمخض بالضرورة عن عملية تفكير منطقي. هناك نوع اّخر من التفكير لا يعرفه إلا قلة من الناس لأننا لا نميزه إلا عندما يقود إلى أفكارٍ بسيطة تتجلى فقط عند التأمل فيها. سنبحث في هذا الكتاب هذا النمط التفكيري الذي يوفر فرصة أفضل للكشف عن الأفكار الجديدة. ورأينا من المناسب استخدام عبارة (التفكير الجانبي) للإشارة إلى هذا النمط مقارنةً مع (التفكير العمودي) للدلالة على التفكيرالمنطقي التقليدي.
مع أن مانعرفه عن تفاصيل عمل الدماغ قليل نسبيا، يمكن أن نخرج بمفهوم عام عن تنظيمه من خلال رصد الإثارة في شبكة الدماغ العصبية، فتكون معرفتنا هذه أشبه بمعرفتنا بالبناء الوظيفي للدارة الكهربائية في المنزل دون الولوج في تفاصيل تمديدات الأسلاك وتصميم كل مفتاح. وهكذا يمكننا فهم عملية التفكير من خلال اختبار نتاج العقل الذي يشكل دليلاً على النظام المُستَخدم فيه. ولابد في تحليل نظامٍ من هذا النوع من الأخذ بتأثيرات التداخل المعقد بين سلبية التغذية الراجعة وايجابيتها.
تدلنا هذه النظرة لوظيفة الدماغ على أحد أشكال تطوير مفهوم التفكير الجانبي رغم أن فائدة التفكير الجانبي لا تعتمد مطلقاً على فعالية هذا الشكل. ويبقى الشكل - مع كونه فعالاً بحد ذاته - منقطع الصلة عن الاستخدام الماهر للتفكير الجانبي كما هي علاقة معرفة الهندسة الميكانيكية بسائق السيارة البارع. وهكذا فاستخدام التفكير المنطقي ليس له علاقة بالفهم الكلي لعمل الدماغ.
ترتكز الأفكار في هذا الكتاب على الملاحظة البسيطة وعلى مفهومٍ معينٍ لبنيـة الدماغ الوظيفيـة. لذلك نستخدم عبارات مثـل (فكـرة) و(فكرة مجردة) و(إدراك) كونها تناسب موضوع البحث.
ليس التفكير الجانبي شكلاً سحرياً جديداً بل هو طريقةٌ أكثر إبداعية في استخدام العقل. يسيء متعاطو المخدرات إستخدام هذا التفكير بينما تحسن الرياضيات الحديثة استخدامه لأنها تخلصت من الطريقة القديمة الثابتة وقدمت للطالب تطويراً مباشراً مزوِّدةً إياه بمعانٍ أكثر شخصية عن الهدف. وهذا مايشجع على مرونة العقل لأن على الطالب أن يرى المسألة من جوانب عدة ويدرك وجود العديد من الطرق للوصول إلى النتيجة الصحيحة. رغم هذا كله تبقى المبادىء الأساسية للتفكير الجانبي متداخلة مع مجالات التعلُّم الأخرى.
سيرى بعض القراء بعد أن يفرغوا من قراءة هذا الكتاب أن التفكير الجانبي يظهر من حين لآخر ثم يختفي. ولا نتذكره إلا بعد أن تظهر نتائج استخدامه الرائعة. ليس هناك كتاب معين يعلِّمنا التفكير الجانبي أي أننا لا نستطيع في الصفحات القادمة إلا أن نقدم اقتراح إمكانية استخدام طرق معينة وبطريقة مقصودة بهدف كسر أسس التفكير المنطقي الخانقة. كما نهدف من هذا الكتاب إظهار خواص التفكير الجانبي وكيفية عمله ومن ثم تحفيز القراء ليطور كل منهم قدراته الخاصة كي يتَّبع هذا التفكير وبهذه الطريقة.


الفصل الأول

ذات يوم استدان تاجرٌ في لندن مبلغاً ضخماً من أحد المرابين في عصر يمكّن المرابي من زجِّ المدين في السجن. وكان لذلك التاجر ابنة حسناء سال لعاب المرابي عليها. اقترح المرابي على التاجر أن يعفيه من ديونه مقابل تزويجه ابنته. رُوِّعَ التاجر وابنته عند سماعهما بتلك الصفقة وراحا يسوفان ويتلكئان فتظاهر المرابي الماكر أنه سيجعل حسم الأمر بيد العناية الإلهية واقترح أن يضع حصاة سوداء وأخرى بيضاء في كيس ثم تسحب الفتاة واحدة. فإن سحبت السوداء تتزوجه ويُعفَى أبوها من الدَّين. وإن سحبت البيضاء تُعفَى من زواجها منه ويعفى أبوها من الدَّين. وإن رفضت أن تسحب فسيُرْمَى أبوها في السجن وتموت ابنته جوعاً.
قبل التاجر مُكرَهاً عرضَ المرابي وكانوا يتحدثون في حديقة المرابي على سرير حصوي. انحنى التاجر ليلتقط اثنتين من الحصى. لاحظت الفتاة أنه التقط اثنتين سوداوين ووضعهما في الكيس ثم طلب من الفتاة أن تسحب الحصاة التي ستحدد مصيرها ومصير أبيها. الآن، تخيل أنك في حديقة التاجر وطُلِبَ منك أن تتصرف كما طُلِبَ من الفتاة تعيسة الحظ أو لنقل أنك تريد أن تنصحها فيما تفعله.
أي نوع من التفكير ستستخدم لحل هذه المسألة؟ ربما اعتقدت أن تحليلاً منطقيا دقيقا يمكِّنك من حل المسألة إن كان هناك حل. وإذا ما اخترت هذه الطريقة إنما تختار التفكير المباشر العمودي. أما نمط التفكير الآخر فهو التفكير الجانبي.
إن الخيارات التي يضعها التفكير المنطقي أمام الفتاة محدودة وتؤدي إما إلى زواج تعيس أو إلى سجن أبيها. هنا يظهر الفرق جليا بين التفكير العمودي والتفكير الجانبي. ينطلق أصحاب التفكير العمودي من حقيقة أن على الفتاة أن تسحب الحصاة. أما أصحاب التفكير الجانبي فينطلقون من نقطة الحصاة المتبقية في الكيس. يبدأ المنطقيون من النقطة الأكثر منطقية ويتابعون الخط المنطقي للخروج منها. أما أصحاب التفكير الجانبي فيحاولون اكتشاف طرق أخرى ولا يقبلون بالمنطق الظاهر أو المتابعة من خلاله.
تضعُ الفتاة يدها في الكيس وتسحب حصاة. ودون أن تنظر إلى ما سحبت تتظاهر أنها ارتبكت وأوقعت الحصاة من يدها إلى الأرض حيث ضاعت بين الحصى. ثم قالت: «يا لغبائي، لقد وقعت الحصاة! لكن لا يهم لأنكم ستتعرفون عما سحبت من خلال لون الحصاة المتبقية في الكيس».
وبما أن الحصاة المتبقية سوداء لابد أنها سحبت البيضاء. أما المرابي فلن يجرؤ على الإفصاح عن غشه أمام الجميع. وبهذه الطريقة استطاعت الفتاة - باتباعها التفكير الجانبي - أن تغير مسار الأمور ليصبح ما بدا مستحيلاً في المرحلة الأولى مفيداً للغاية. ومن حسن حظ الفتاة أن المرابي غشاش. ولو كان غير ذلك - أي لو أنه وضع بيضاء وسوداء - لكان لديها فرصة واحدة في النجاة أما الآن فهي متأكدة من نجاتها ونجاة أبيها.
اعتُبِرَ التفكير العمودي ولوقت طويل نموذجاً مثالياً وشكلاً غير قابل للنقاش، لا بل ينصح به وتُحَثُّ جميعُ العقول على إتباعه ولو أدى إلى فشل قريب أو بعيد. وربما كان الحاسوب مثالاً على ذلك. إذ يحدد المبرمج المسألة كما يحدد طريقة الكشف عنها. ثم يأتي الحاسوب ليحلها بمنطقية وكفاءة لا تُضَاهى.
يختلف التفكير الجانبي عن التفكير العمودي بطريقة الانتقال من مرحلة لأخرى. فعندما نأخذ مجموعة مكعبات ونبنيها فوق بعضها نجعل كل واحد يرتكز بشكل راسخ على الآخر. يشكل هذا الارتكاز التعليل الدقيق للتفكير العمودي. أما بالتفكير الأفقي فتكون المكعبات مبعثرة هنا وهناك تربطها علاقة ضعيفة إن لم تكن معدومة. لكنها بالنهاية تتمتع بنموذج لا يقل فائدة عن النموذج العمودي.
يصعب علينا إدراك التفكير الجانبي قبل ظهور نتائجه بشكل عملي كما في قصة الحصاة التي واجهنا فيها مسألة تبدو مستحيلة الحل في البداية حتى ظهر حل بسيط ومدهش. وعندما نفكر في هذا الحل نراه واضحاً لدرجةٍ تبعث فينا الاستغراب من الصعوبة التي واجهناها في البداية. إنها الصعوبة التي تنجم عن استخدام التفكير العمودي. لا يقتصر دور التفكير الجانبي على حل المعضلات بل يتعداها إلى خلق نظرةٍ جديدة وأفكارٍ جديدة في شتى المجالات.
عند عرض مسألة كقصة الحصاة وتقديم الحل مباشرة، يميل القارئ إلى اعتبار المسألة تافهة برمتها. لكن تأجيل ظهور الحل يبرز أهمية التفكير الجانبي. وفي أفضل أمثلة التفكير الجانبي، يبدو الحل الذي توصلنا إليه عمودياً، وننسى بعدها فضل التفكير الجانبي الذي أوصَلنا إلى هذا الحل. وما أن يماط اللثام عن الحل حتى يدعي الكثيرون أنه كان نتيجة تفكير عمودي. وعند إعادة النظر في مراحله نلحظ بسهولة التسلسل المنطقي بدءاً من ظهور المسالة وحتى حلها.
يمكن للمنوِّم المغناطيسي أن يأمر الخاضع له باتباع سلوك معين على أن ينفذه بعد الخروج من غشيته. وعندما يأتي ميعاد التنفيذ يطبق الشخص الخاضع أوامر المنوم بحذافيرها، كأن يرفع المظلة داخل غرفة الجلوس أو أن يعطي كلاً من الحضور كأسا من الحليب أو أن يقف على أربعةٍ وينبح كالكلاب. وعندما نسأله عن سبب سلوكه الغريب، يسارع إلى تقديم التبريرات بمنطقية عالية. تعتبر هذه التبريرات دليلاً صارخاً على القدرة على التسويغ. يعرف الحضور السبب الحقيقي لسلوكه، لكن كيف لمبرراته أن تقنع أي قادم جديد إلى الجلسة.
لا ضير في تسويغ الأمور على الطريقة العمودية بعد التوصل إليها على الطريقة الجانبية. لكن تكمن الخطورة في الاعتقاد بإمكانية تكرار مثل هذا السلوك ثانية كما نفعل في الطريقة العمودية إذ تُحَلُّ جميع المسائل بالطريقة ذاتها.
إحدى تقنيات التفكير الجانبي هي استخدام مُتَعَمَّد للتسهيل المنطقي. وبدلاً من المتابعة درجة درجة حسب الطريقة العمودية المعروفة، نأخذ موقعاً عشوائياً جديداً ثم نحاول شق طريق نحو نقطة البداية. وعندما نتمكن من ذلك، لا بد من إخضاعه لأعلى معايير المنطق دقةً. وإذا نجح هذا الطريق عبر هذا الاختبار، فاعلم أنك في موقع مفيد ما كان من الممكن الوصول إليه عبر الطريقة العمودية. وإذا عجزت عن الدفاع عن هذا الموقع أو الاحتفاظ به فحسبك اكتساب أفكار جديدة مفيدة من خلال محاولتك تبرير موقعك هذا.
ما أقل من أحب التفكير الجانبي واعتمده بديلاً عن التفكير العمودي بشكل دائم. وما أكثر الذين رفضوا التفكير الجانبي وأصروا على التفكير العمودي كنمط كافٍ وافٍ. في الحقيقة هما نمطان متكاملان. نلجأ للتفكير الجانبي عندما يعجز العمودي عن إيجاد حل لمسألة تحتاج إلى فكرة جديدة. فالأفكار الجديدة بحاجة إلى تفكير جانبي لأن العمودي مُحاصَر بحدود بنيوية تمنعه من أداء هذه المهمة ولا يستطيع أن يتجاهل هذه الحدود لأنها تمثل ماهيته.
إن التركيب الوظيفي للعقل- كنظام متكامل- يوجهه نحو تفسير الأمور بطريقة (الاحتمالية العليا). أما نظام الاحتمالية فمرتبط بالخبرة والحاجة الآنيَّة. إذن التفكير العمودي هو تفكير الاحتمالية العالية التي لا نستطيع ممارسة حياتنا اليومية بدونها لأننا سنضطر إلى تحليل كل تصرف أو حدث وفحصه بعناية، أي لا نسلم جدلاً بأي شيء مهما يكن. عندها نضيّع الكثير من طاقتنا في التحليل المنطقي، كما يصيب الحريش (أمُّ 44) عندما ترتبك من وعي كل حركة من حركاتها. إن إحدى وظائف الفكرة هي تغييب نفسها ليعقبها العمل مباشرة حسب فهم الحالة. ويكون هذا ممكنا عندما يتبدّى التصرف الفعال للعقل حسب الاحتمال الأعلى.
كما تنساب المياه إلى أسفل المنحدرات سالكة الطريق في سرير النهر، كذلك يفعل التفكير العمودي عندما يأخذ أفضل الطرق الممكنة موسِّعاً مجراه وجاعلاً إياه الطريق الأعلى احتمالية يوماً بعد يوم. وإذا كان التفكير العمودي يحمل الاحتمالية العالية فإن التفكير الجانبي يحمل احتماليةً أدنى ويحاول أن يشق قنوات جديدة لتغيير مجرى الماء. ويضع السدود في طريق القنوات القديمة على أمل إيجاد مسارات أسهل أمام الماء. أحياناً يُسحَب الماءُ للأعلى بطريقة غير عادية. وعندما يقودنا الخط الأدنى احتمالية إلى فكرة جديدة تأتي لحظة (وجدتها)ويتحول الأدنى احتمالية إلى أعلى احتمالية ممكنة. يشكل سحب المياه للأعلى المرحلة الأصعب التي تنساب بعدها المياه بحريَّة. إن هذه اللحظة هي وحدها هدف التفكير الجانبي.
يبدو التفكير الجانبي متعلقاً بالتفكير الإبداعي لأنه مرتبط بالأفكار الجديدة. وما التفكير الإبداعي إلا جزء من التفكير الجانبي. تشكل منجزات التفكير الجانبي إبداعات أصيلة أحياناً. وأحياناً أخرى هي ليست إلا طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء دون أن تكوِّن إبداعا كاملا. يحتاج التفكير الإبداعي إلى موهبة في التعبير أما التفكير الجانبي فَمُشَرِّعٌ أبوابه لكل المهتمين في الأفكار الجديدة.
في هذا الكتاب، لا نستخدم التفكير الإبداعي بالمعنى الفني الحقيقي كمثال على التفكير الجانبي. لأن نتاج الإبداع قضية شخصية بحتة وليست قيمة الجهد الفني الإبداعي إلا قضية ذوق وموضة. لكن يسهل علينا رؤية أثر التفكير الجانبي على الاختراع الذي قد ينجح أولا ينجح في نهاية المطاف. ومن السهل أيضا تحديد ما إذا كان حل المسألة قد أتى عن طريق التفكير الجانبي أو غير ذلك.
كلما ابتعد التفكير الجانبي عن قواعد العقل أو التفكير العمودي، كلما بدا أقرب للجنون. هل التفكير الجانبي مجرد شكل جنوني مقصود ومؤقت؟ وهل تفكير الاحتمالية الأدنى مختلف عن العشوائية التي ترافق الفصام الذي يتميز بعقلية الفراشة التي تطير من فكرة لأخرى؟ وإذا أراد أحد أن يهرب من الشكل الصريح للأشياء، لماذا لا يتناول مخدراً؟ تختلف عملية التفكير الجانبي عن هذا كله بأنها تحت السيطرة الكاملة. وعندما يختار التفكير الجانبي طريقة هيولية فإنه يستخدمها بطريقة موجهه ولا تكون تشويشاً ناتجاً عن غياب السيطرة. وأثناء هذه العملية تبقى القوى العقلية تتأمل بإمعان لتحكم على الأفكار الجديدة وتختارها. وهنا يضع المنطق نفسه في خدمة العقل. أما في التفكير العمودي فيسيطر المنطقُ على العقل.
هل للشخص قدرة ثابتة على التفكير، أم أنها تتناسب مع اهتماماته ومع ما يملك من فرص لتطويرها؟ ما أقل الذين يملكون استعداداً طبيعياً للتفكير الجانبي. لكن الجميع قادرون على تطوير مهارة معينة إذا ما حاولوا ذلك عامدين. لا تشجع التعاليم الأرثوذكسية على عادة التفكير الجانبي بل تحاول أن تثبطها مستخدمة حاجة الفرد للتكيّف مع حدود الامتحانات المتعاقية.
ليس التفكير الجانبي خلطة سحرية يتناولها الشخص فيستفيد منها. إنها موقف وعادة عقلية. وما المقصود بالتقنيات المشروحة هنا إلا إثارةً لوعي عمليات التفكير الجانبي، ولا يمكن لهذه التقنيات أن تستخدم كما يستخدم كتاب الطبخ. وليس هناك انقلابٌ مفاجئ من الإيمان بكلية القدرة عند التفكير العمودي إلى الإيمان بفائدة التفكير الجانبي. ليس التفكير الجانبي إلهاما بل هو وعي وممارسة.

الفصل الثاني

كم من الناس يعيشون طيلة حياتهم في ظل فكرة واحدة؟ وكم عدد الناس الذين يتمتعون بقدرة على ابتكار العجلة الدائرية لو لم تبتكر بعد؟
يعتقد معظم الناس أن الأفكار الجديدة تخطر للآخرين فقط كما هو الحال في حوادث المرور. والإفتراض السائد هنا أن الآخرين هم القادرون على خلق أفكار جديدة وهم الذين تُتَاح لهم معظم الفرص.
ليت الأفكار الجديدة تأتي مكافأةً لأولئك الذين يبذلون الجهد المتواصل. فهم الذين يستحقون ذلك الشرف. كما يشعر المجتمع بسعادة أكبر عندما ينظم ويشجع الجهود الجبارة ويبدي لهم الإحترام اللازم إذا ما أثمرت جهودهم تحت إشرافه.
لكن لسوء الحظ ليست الأفكار الجديدة امتيازاً لأولئك الذين يقضون أوقاتاً طويلة في تطوير أنفسهم. لقد قضى تشارلز داروين أكثر من عشرين سنة من عمره يعمل في نظرية الإرتقاء على مبدأ البقاء للأفضل. لكن (والانس) أنجز النظرية خلال أسبوع واحد في إنديز الشرقية. إن التطوير الكامل لفكرةٍ ما ربما يحتاج لسنين طويلة من العمل الشاق لكن الفكرة بحد ذاتها قد تخطر بالبال بلحظة تَبَصُّرٍ واحدة.
تحتاج بعض الأفكار لطريقة جديدة في النظر إلى الأشياء. ويصعب علينا تخيل إمكانية ظهور تلك الأفكار بدون تلك الطريقة. وإذا انعدم الرضا عن الفكرة القديمة بسرعة، لم تعد الفكرة الجديدة بحاجة لسنوات عمل طويلة. وقد تأتي سنوات العمل الطويلة بأفكار جديدة صعبة المنال لأن هذه السنوات تتيح المجال لإعادة ترتيب وتمركز الأفكار القديمة. وما أكثر مافي الحياة العلمية من علماء مجدين لايعوزهم منطق بحث أو دقة في العمل، ومع ذلك تراهم بعيدين عن الأفكار الجديدة.
قد تظهر الأفكار الجديدة من خلال تجميع معلومات جديدة أو من خلال الملاحظة والتجربة أو إعادة تقييم الأفكار القديمة. لا بد أن المعلومات الجديدة تؤدي إلى أفكار جديدة لكنها غير موثوقة لأن معظمها يُفَسَّرُ على أساس النظرية القديمة ويُبَرمَجُ بشكل يدعمها. كذلك يفعل المحلل النفساني عندما يفسرالأعراض الجديدة التي تطرأ على مريضه تفسيراً محترفاً يدعم تشخيصه السابق. لهذا السبب يعزو الكثيرون استمرار نظريات فرويد إلى مرونة برهانها التجريبي الذي يستوعب كل محاولة لدحضها.
يمكن للمعلومات الجديدة أن تؤدي إلى أفكار جديدة لكن الأفكار الجديدة ليست بالضرورة ناتجة عن معلومات جديدة بل من خلال تأمل بالأفكارالقديمة وربطها ربطاً جديداً. يمثل آينشتاين مثالاً جيداً هنا لأنه ابتكر نظريته النسبية دون معلومات جديدة جمعها أو تجارب أجراها. إذن لم يأت بمعلومات جديدة بل بنظرة جديدة. أما التجارب التي أكدت النظرية فقد أتت لاحقاً. كان الجميع راضين عن المعلومات الموجودة وعن تناسبها مع البنية النيوتنية. لكن آينشتاين وضعها بطريقة جديدة تماماً. تخيلوا هنا الكمَّ الهائلَ من الأفكار والمعلومات القديمة التي يمكن إعادة ترتيبها بشكل أفضل الآن. عند التكلم عن الأفكار الجديدة، يخيل لمعظم الناس الابتكارات التقنية والنظريات العلمية. صحيح أن الإبتكارات والنظريات تحتاج إلى معرفة، لكن المعرفة غير كافية إن لم ينتج عنها أفكار جديدة. هناك امرأة أمريكية جنت أموالاً طائلة من اكتشافها لطريقة جديدة تُطوَى بها قطعة ورق كي تُستخدم كفاتورة أو وصل استلام. انتشرت هذه القطعة لأنها توفر الجهد والمال والقرطاسية. إن عملية خروج الفكرة الجديدة منفصلة تماماً عن الأهمية الفعلية لتلك الفكرة. فالفكرة التافهه تخرج بنفس الطريقة التي تخرج بها فكرةٌ تغير مجرى التاريخ. ويقال أن نابليون العظيم واجه صعوبة في التخلص من كلب زوجته لا تقل عن الصعوبة التي واجهها في التخلص من الجيوش القوية التي أُرسِلت لمحاربته.
هناك مثال على عدم كفاية المعرفة التقنية والظروف الصحيحة لصنع أفكار جديدة. إنها قصة الصمام الـ ثيرميوني الذي اعتمد عليه تطور التكنولوجيا الإلكترونية بما فيها من عجائب تتعلق بوسائل الإتصالات. لقد وضع أديسون - ساحر الكهرباء - يده على المصباح الكهربائي الذي نعتبره اليوم شكلاً بدائياً عن الصمام الثيرميوني. لم يكن لأحد في ذلك الوقت الأرضية الكافية لإدراك ماهية أداة أديسون حتى أتى فلمنغ بعد سنوات ليفعل ذلك في لندن. ثم أتى بعده لي فورست ليطور الصمام الثلاثي. ولم تتم الاستفادة الكاملة منه حتى أتى مهندسو التلفون ليفعلوا ذلك.
هناك صعوبة كبيرة في التوصل إلى الأفكار الجديدة لأنها تعتمد على الصدفة. وحسب هذا الرأي لا تظهر الفكرة الجديدة إلا باجتماع عناصرها على شكل معين وفي وقت واحد وفي عقل شخص واحد. الأمر إذن هو انتظار فرصة اجتماع مخصِّب لجميع تلك العناصر. لاشك أن هذه الرؤية سلبية لكنها ثابتة بالأدلة.
لقد أثبت العقل البشري كفاءة وقدرة عالية في تطوير الأفكار الجديدة فور ظهورها. ففي فترة لاتتجاوز حياة شخص واحد تطورت الطائرة من تجربة مغامرة لا تتجاوز ميكانيكية دراجة هوائية إلى أن أصبحت وسيلة مواصلات لا تُضاهَى من حيث الفعالية. أما المذياع فقد تحول من معجزة مؤقتة إلى أداة رخيصة بمتناول الجميع. تفوَّق العقل البشري في تطوير الأشياء لدرجة أنه صمم عقلاً إلكترونياًَ يساعده في رفع القدرة على التطوير أكثر فأكثر. لكن العقل ضعيف أمام خلق فكرة جوهرية جديدة. ورغم توفر التكنولوجيا ولوقت طويل، لاتظهر الأفكار الجديدة إلا بشكل مشتت. ولم يكف وجود التكنولوجيا لإنشاء الطائرة المحلقة حتى أتى كرستوفر كوكريل بفكرته الجديدة. ومن ناحية أخرى، تندثر الفكرة إن لم تجد التكنولوجيا الكافية لإخراجها إلى الحيز العملي. وخير مثال على هذا شروع تشارلز بابج - برفسور الرياضيات اللوقاني في جامعة كمبردج – بإنشاء أول حاسوب في ثلاثينات القرن العشرين. لكنه أُحبِط بسبب غياب التكنولوجيا الألكترونية التي جعلت الحاسوب ممكناً اليوم. ظلت فكرة البروفسور بابج الممتازة حبيسة حتى أتت النَّقلة الميكانيكية. إذن التكنولوجيا تساعد الفكرة الجديدة على الظهور لكنها عاجزة عن خلقها.
إذا ما سلمنا بالظهور السلبي للأفكار الجديدة، ما علينا إلا الانتظار، الدعاء والصلاة. لكن لا بد من وسيلة بديلة عن الإنتظار. ويدلنا السؤال التالي على إمكانية وجود ذلك البديل. إذا كانت الأفكار الجديدة محض صدفة، لماذا ظهر عند أديسون الكثير من الأفكار مقارنةً مع غيره؟ أو لماذا تظهر سلسلة من الأفكار الجديدة لدى العلماء والمخترعين وليس فكرة واحدة؟ إذن هناك قدرة على توليد أفكار جديدة قابلة للتطوير عند البعض دون غيرهم. إنها قدرةٌ لاعلاقة لها بالذكاء المحض بل بعادة عقلية معينة أو بطريقة معينة بالتفكير.
قد يفوز صاحب الفكرة الجديدة بمكافأة مجزية أو ربما لا يجنى منها إلا شيئاً تافهاً. فالرجل الذي صنع الحصَّادة المركَّبَة جنى منها ثروة طائلة. أما صانعو آلة الخياطة لم يجنوا منها شيئا على الإطلاق. لكن لا بد من مكافأة أكيدة. إنها فرحة من نوع راق. إنها نشوة تختلف عن أي سعادة ترافق أي عمل آخر، إنها نشوة الإنجاز.
لا يمكن تجاهل أي فكرة جديدة تقفز إلى حيز الوجود، فهي تدخل عالم الخلود بمجرد ولادتها.

الفصل الثالث

نتفق جميعاً على الإفتراض القائل أن الأفكار الجديدة مفيدة، مجزية ومثيرة. وكثير منا يوافق على الافتراض أنه ما من شيء محدد يمكن أن نفعله للتوصل إليها. وقليلون هم الذين يرون أنه يجب أن نفعل شيئا ما لبلوغ تلك الأفكار.
لكي نفعل شيئا ما للوصول إلى افكار جديدة يمكن العمل بطريقتين: الأولى هي محاولة تحسين السبل المتبعة. والثانية هي معرفة وإزالة كل ما من شأنه إعاقتها. فعندما يلاحظ السائق أن سيارته بطيئة نسبياً، إما أن يرفع من شدة الضغط على دوَّاسة البنزين أو أن يتأكد من تحرير المكابح. كذلك الأمر عند تصميم سيارة أسرع. إما أن يستخدم المصمِّمُ محركاً أقوى أو أن يخفف من وزن السيارة أو من مقاومة الهواء لها، الأمران اللذان يساهمان في إبطائها.
من المفيد أن نبحث في الغباء كي نفهم الذكاء. وربما كان أسهل علينا أن نرى ما يعوزه الغبي على أن نرى ما ينعم به الذكي. أي من الأفضل أن نعرف سبب عدم قدرة عموم البشر على الإبتكار بدلاً من البحث في أسباب ابتكار المخترع. ويمكن تطوير القدرة على اكتشاف أفكار جديدة عندما نمتلك النظرة التي تؤهلنا من معرفة ما يمنع ظهورها.
ما يجعل التفكير الجانبي ضرورة ملحة هي القيود التي يفرضها التفكير العمودي. واستخدمنا هنا عبارتي (جانبي) و(عمودي) على اعتبار أنه لا يمكن فتح حفرة ثانية في مكان آخر من خلال التعمق في الحفرة الأولى.
يُستَخدمُ المنطق في تعميق الحفرة وتوسيعها وتحسينها من جميع النواحي. لكن هذا كله لايستطيع أن يغير موقع الحفرة ولو كان خاطئا. وحتى عند وضوح هذه الفكرة للحفَّار فإنه يستسهل متابعة الحفر على الشروع في الحفر في موقع جديد. التفكير العمودي هو متابعة الحفر أما التفكير الجانبي فهو البحث عن موقع جديد.
يعود استبعاد تغيير موقع حفرة تم إنجاز نصفها إلى الرغبة في عدم هدرالجهد المبذول فيها رغم عدم جدوى تلك الحفرة. ويرى الحفار سهولةً في الإستمرار في العمل ويفضِّله على البداية في مكان جديد وهذا ما نسميه الإلتزام العملي.
لم تتجاوز الجهود العملية حتى الآن حدود توسيع النظرة المنطقية للحفرة التي قبلناها سابقاً. تحاول عقول كثيرة خدش جدران الحفرة فتفشل تارةً وتظفر تارةً بحسب قوتها. أما الذين شرعوا بحفرة جديدة قد وصلوا إلى أفكار جديدة وأحرزوا تقدماً علمياً هائلاً. وما دفعهم إلى الحفرة الجديدة هو عدم قناعتهم بالحفرة القديمة أو جهلهم التام لها أو لرغبتهم بان يكونوا مختلفين عن الآخرين، أو ربما لنزوة محضة. نادراً مايحصل هذا التغيير في الموقع لأن الثقافة القديمة تفرض على الناس فهم الحفرة القديمة التي اختيرت حسب أفضلياتهم. وإذا ما استخدمنا أي ثقافة في غير موقعها ستقودنا إلى الشتات. من الصعب تكوين القدرة التي تشجعنا على رفض الحفرة القديمة سيما وأن الثقافة تعيق ذلك لأنها غير معنية بالتقدم فهي تسعى دائما لتوسيع المعرفة التي تخدمها. ليست الثقافة إبداعية بل استمرارية وتواصلية.
جهل الإنسان بالحُفَر القديمة يجعله حراً قادراً على بداية جديدة في أي مكان. لكن الصعوبة هي في تجاهل الحفر القديمة بعد قبولها بهدف الوصول إلى بداية جديدة. لذلك نرى الكثيرمن المكتشفين العظماء مثل فاراداي لم يتلقوا تعليماً رسمياً على الإطلاق. أما علماء مثل داروين وكلارك وماكسويل فلم يتلقوا التعليم الكافي لطمس أصالتهم. لهذا نفترض أن فرصة استنباط أفكار جديدة تتاح للعقل القادر عندما يكون جاهلاً بالنظرة القديمة للأشياء.
تستقطب الحفرةُ نصف المحفورة الجهدَ لأنه بحاجة إلى وجهةٍ يُسخَّرُ بها لكنها بنفس الوقت تسبب استنفاده. وإذا حصل هذا الجهد على نتيجة إيجابية سريعة فإنه يستمر بشجاعة، أما إنتظار هذه النتيجة طويلاً فيسبب مشكلة كبيرة. يحرز توسيع الحفرة الحالية تقدماً ويؤكد على منجزات مستقبلية كما يضفي على الحفرة إلفة وراحة مكتسبة.
كيف لنا أن نلغي حفرة أنجزنا جزءاً كبيراً منها دون أن يكون لدينا فكرة عن مكان الحفرة الجديدة. يتطلب هذا الإلغاء طبيعة بشرية عملية. وتظل هذه النقلة صعبة حتى بعد اختيار الموقع الجديد.
لا يجد منفذو آبار النفط هذا الأمر صعباً لأنهم يدركون تماماً أنَّه من الأفضل لهم أن يجلسوا جانبا ويفكروا في موقع جديد على أن يواصلوا العمل في نفس الحفرة. الفرق بين النفطيين والعلماء في هذا المجال هو أن النفطيين يتحملون كلفةً باهظةً عند مواصلة الحفر. أما العلماء والصناعيون فيتحملون كلفة أكثر عندما يتوقفون عن الحفر.
كيف يمكن للإنسان أن يوظِّف جهوده دون حفرة؟ فغياب الحفرة يعطل معاول المنطق ويوقف التطور والإنجاز الذي يشكل الجانب الأهم لأن الإنجاز هو الحكم الوحيد الذي يحكم على جدوى الجهد المبذول. وعلى العَالِم أن يحافظ على هذا الحَكَم كي يتمكن من الإستمرار في عمله.
لا يمكن دفع أجورٍ لأشخاصٍ بمجرد أنهم قادرون على العمل. فكيف لنا أن نحكم على قدرتهم تلك بدون ظهور إنجازهم الملموس؟ يظل الحفر في مكان ما أفضل - حتى لوتبين لنا موقعه الخاطئ - من الجلوس جانبا والتفكير في ذلك المكان. صحيح أن حفرة المفكر المتريث أكثر قيمة ولكن كيف لنا أن نحكم على تلك القيمة قبل الحفر الفعلي أو قبل ظهور الإنجاز؟
من الأفضل على المدى البعيد أن يبقى البعض في حالة تجوال باحثين عن مواقع أفضل بدلاً من الانخراط في محورٍ فائدته محدوده. لكن يبقى السؤال القائم: من يقبل أن يوظف جهوده في مهب ريحٍ قد لا نجني منها شيئا خصوصا في ظل النظام المالي؟ أو من يتحمل أعباء التجوال حول الحفرة؟ إنها مقامرة مجهضة وغير مثمرة.
نسمِّي الخبيرَ خبيراً لأنه يدرك الحفرة الحالية أكثر من غيره باستثناء أنداده الذين يختلف معهم بالرأي فيظهرُ خبراءٌ بعدد الخلافات ويفوز واحد منهم بلقب الخبير الأول. يشارك الخبراء في شكل الحفرة التي تحكم على درجة خبرتهم. لذلك لا يبادرون بالحفر في موقع آخر ولا يخطر ببال أحد منهم أن يتسلق إلى الأعلى ليعيد النظر في مكان الحفرة. ولا يميل الخبراء إلى استخدام خبرتهم في التعبير عن عدم الرضا عن الحفرة لأن ذلك سيعطي للآخرين - ممن ليس لديهم الحق في عدم الرضا - أن يعبِّروا عن عدم رضاهم وبقوة. لهذا السبب لا يُرجى من الخبراء أن ينظروا في مواقع جديدة لأنهم يشعرون بقمة سعادتهم وهم في قعر الحفرة.
يجد العقل سعادته عندما يستخدم المنطق في توسيع الحفرة القائمة، وتشجعه الثقافة على ذلك. ويختار المجتمع خبراءه للإشراف على سير العمل. في ظل هذا كله تزداد الحفرة المتطورة تطوراً بفعل الجهود المنطقية المبذولة. إذ تكتسب الكثير من الحفر قيمتها العالية لِمَا نستخلصه منها من مادةٍ خام لمعرفة عملية. في حين لا نجني من حفرٍ أخرى سوى ضياع الجهد.
ليست الحفرة الجديدة التي يُضَيَّعُ فيها الجهد خاطئة - على الأقل من حيث موقعها- مهما بلغ حجمها. وقد أثبتت بعض هذه الحفر فائدتها العظيمة. لكن للبدء في حفرة كهذه لابد من إنعتاق الناس من الالتزام بالحفرة المسيطرة.
كثيراً ما نستخف بالأثر المسيطر للأفكار السائدة، التي نتوهَّم أنها مناسبة من حيث الظاهر. ونعتبر الفكرة القديمة مجرد أساس نستفيد منه ريثما تظهر افكارٌ أفضل. فإذا وقع مصمِّمُ أفلام الكرتون تحت سيطرة بعض الخطوط التعبيرية في الوجه، يصعب عليه بعدئذ التخلص من ذلك الإنطباع أو النظر للوجه ذاته محاولاً خلق طريقة جديدة في التعبير.
لا يمكن للطائفة التي تجتمع في أعالي الجبال في يوم ينتظرون فيه نهاية العالم - أي نبوءة يوم القيامة - أن تهتز أفكارهم الجوهرية إلا بإيمان جديد يعتمد على رحمة االقادر. وهنا نرى أن المعلومات الجديدة التي يمكن أن تؤدي إلى تحطيم فكرة قديمة سرعان ما تندمج فيها بدلاً من تحطيمها. فتزداد الفكرة القديمةُ قوةً كلما اندمجت فيها معلومات جديدة. ويمكن تمثيل العلاقة هنا بقطرة الزئبق الكبيرة التي تَجْذُُبُ القطرة الصغيرة لتزيد من حجمها أكثر فأكثر. وكلما أقتربت القطرة الصغيرة من الكبيرة تندمج فيها فيزيائياً وتفقد هويتها. وهذا ما يحصل عندما تبتلع الأفكارُ المسيطرةُ القطرات الصغيرة ابتلاعاً بدلاً من إقامة التسوية معها.
من الأمثلة التي تُبين جلياً دورَ الأفكار المسيطرة هو مرض عقلي يدعى (الإرتياب الإضطهادي). ويتميز هذا المرض عن سائر الأمراض العقلية بعدم تعطُّل القدرة على التفكير المنطقي لدى المريض بل على العكس تصبح القدرة على الإستنتاج أكثر حدةً. والغريب في هذا المرض أن صاحبه يعيش تحت وطأة فكرة مسيطرة. فيفسر كل مايحدث قريباً كان أم بعيداً أنه موجَّهٌ ضدَّه. ويعتبر ملاطفة الآخرين له محاولة خبيثة لكسب ثقته بهدف تدميره، والطعام المقدم له مسموماً، والجرائد تعج بالتهديدات المبرمجة ضده. ولا يمكن خروج تفسير الأشياء لديه عن هذا النطاق.
تلعب الأفكار السائدة دوراً كبيراً في السلوك البشري من خلال أثرها التنظيمي القوي على طريقة التفكير ومعالجة الأمور قبل وضوحها. وفي هذا تُشبَّه الأفكار القديمة بالمدن القديمة المدروسة بعناية. فهي تستقطب كل شيءٍ حولها. إنها محورٌ تدور حوله الأشياء ولاتتأثر بأي تبدلات في تخومها البعيدة لأنها لن تستطيع أن تغيِّر من بنيتها العامة بشكل راديكالي. كما يصعب نقل مركزها كنظام إلى أي موقع آخر.
للتخلص من أفكار سائدة كهذه، لابد من اعتماد إحدى طرق التفكير الجانبي وهي تحديد الفكرة المسيطرة بدقة متناهية وربما يجب وضعها على الورق. وعند ظهور الفكرة بهذه الطريقة يسهل علينا تمييزها وبالتالي نتحاشى تأثيرها المركزي. تبدو هذه الطريقة سهلة لكن العمل فيها دقيق وحساس. فالفهم العام المبهم للفكرة السائدة لا يجدي نفعاً هنا.
الطريقة الثانية هي التعرف على الفكرة السائدة والعمل على تخريبها تدريجيا حتى تفقد هويتها فتنهار نهائياً. وربما كان أحد أشكال التخريب هو حمل الفكرة على التطرُّف في أحد وجوهها. ولابد هنا من التأكيد مرة أخرى على دقة العملية ووعيها من الداخل.
قد يرى البعض أن رفض الفكرة بعد تحديدها هي الطريقة الأسهل ويغيب عن بالهم أن رفض الفكرة السائدة هو تبديل السيطرة الإيجابية بأخرى سلبية فيصبح رفضها تقوية لها بدلاً من إضعافها. وهنا تقع حرية الفكر في قيد رفض الفكرة كما كانت يوماً واقعة في قيد قبولها. يمر في هذه الحالة الطلاب الشباب الذين يقرأون الكثير من الفلسفة. إذ يجدون أنفسهم في وضع لايُحسَدون عليه. فإما أن يقبلوا ما يقرأونه أو أن يرفضوه كلياً. وفي كلتا الحالتين يثبط الوعيُ البسيطُ للفكرةِ تكوينَ فكرةٍ أصيلة في عقلٍ قادرٍ على إنجاب الأفكار الأصيلة.
من الأفضل أن نحجم عن القراءة وندخل مغامرة اكتشاف فكرة موجودة على أن نتلقى الأفكار القديمة تلقياً ولا نستطيع أن نساهم في تطويرها. وإذا ما تقاطعت فكرة جديدة مع فكرة قديمة فإن الأخيرة تخرب وتثبط السابقة تماماً. فالطلاب يتلقون أفكارالمدرس الجيد لضيق عقولهم لكن عندما يظهرصدى تلك الأفكار لاحقاً إمَّا أن يؤيدوها أو يعارضوها.
ليس الخطر في الوعي الكامل للفكرة السائدة لكنه في إهمال أثرها عندما تطرد طريقة التفكير فتحبسها خارج القارورة. ويمكن تشبيه هذه العملية بالعنكبوت القافز. حدَّث أحد أطفال المدرسة عن نظرية ممتعة مفادها أن العنكبوت يستطيع أن يسمع من خلال أرجله. وأثبت نظريته بالتجربة إذ وضع واحدة من العنكبوت على الطاولة وقال: " اقفزي ". فقفزت. وكررهذا مراراً. ثم قطع أرجل العنكبوت وأعادها إلى الطاولة ثم قال: " أقفزي ". لكنها لم تقفز هذه المرة. إلتفت الطفل للمتفرجين وقال: "أترون؟ اقطعوا أرجل العنكبوت فتصبح صماء كالحجر. ".
سمع كل العلماء بهذه القصة وتذكر الصادقون منهم - وهم كثيرون – أمثلة من تجاربهم الخاصة التي أغفلوا فيها تماما استخدام طرق غير التي استخدموها في تقييم نتائج تجاربهم. فنظرياتهم ليست معقولة لأنها معقولة بل لأنها تمثلهم. إنها مُلكُهم. ولهذا السبب نرى العلماء يشططون بعيداً لأنهم اهتموا بملكيتهم لأفكارهم. ليست الظاهرة الطبيعية حِكراً على عَالَم العِلْمِ.
من الصعب الهروب من الفكرة السائدة وقد يستحيل ذلك دون مساعدة خارجية. وكثيراً مايحصل هذا في عالم الطب عندما يحاول الطبيب المُقَرَّب جداً من مرض المريض أن يعزو كل الأشياء لتدعم تشخيصه. ويأتي طبيب آخر فينظر إلى المعطيات من وجهة جديدة ليعطي تشخيصاً أفضل. ونلاحظ انتشار هذه الأفكار الموروثة في المجتمعات المغلقة علميةً كانت أم صناعية. وعندما يأتي قادم غريب إلى هذا المجتمع يثير فيها أفكاراً جديدة من خلال رأيه الجديد.
قد تسيطر الفكرة بسبب تعصب الشخص لأفكاره. وقد تكون سيطرتها نابعة من كسل حاملها. لأنه من السهل قبول فكرة ذات معنى لكن من الصعب التحقق منها والخروج بمعان جديدة لتلك الفكرة. يقدم المذياع والتلفزيون والكلمة المطبوعة معلومات جاهزة. ومن حق وسيلة الإعلام بل من واجبها أن ترتب المادة بشكل قابل للعرض. لكن هذه العملية تفرز فكراً مسيطراً. إذ يسهل علينا قبول المعلومات المنظمة الجاهزة الناتجة عن هذا الترتيب. لهذا السبب نرى أن الأفكار الجديدة التي توفرها وسائل الإعلام لا تثير أفكاراً جديدة عند الجمهور المتلقِّي الذي يرزح بكسله تحت سيطرة فكر أولئك الذين يعرضون تلك المعلومات. وأحياناً تكون الفكرة المسيطرة واضحة للجميع ما عدا صاحبها.
من العناد أن يتمتع الشخص بكونه على خطأ. لكنه رغم فقدانه الحجة يتمتع العنيد بموقع جيد لأنه تخلص من الفكرة القديمة وأصبح مستعداً لتلقي أفكارٍ جديدةٍ. ثم تتعزز أفكاره من خلال الدفاع عنها. وربما يدرك شخص آخر فكرته أكثر منه لأنه استنفد قدرته على تطويرها. ولا تنجو الفكرة القديمة من الدحض حتى بعد أن تُلقي الفكرة الجديدة جميع أوراقها.
إن أفضل كاريكاتير يُظهِر عموديّ التفكير الواقع في أسر فكرة ما هو رجلٌ اقتنى قطةً مع ابنتها. ضجرالرجل من إدخال القطة وإخراجها ففتح لها ثقباً في الباب كي تدخل وتخرج بحرية دون إزعاجه. وما إن وصلت الهرة الإبنة من مشوارها حتى فتح لها ثقبا آخر يناسبها.
يمكن تلخيص الفصل الثالث بما يأتي: يُشَبَّهُ التفكير العمودي بالماء النازل إلى أدنى الطرق المحتملة. وتُشَبَّهُ الفكرة القديمة بنهرٍ شق مجراه بعمق. أما المياه التي تتجمع على السطح فسرعان ما يمتصها النهر. وهكذا تفقد الأنهار الصغيرة الأخرى والبحيرات فرصتها بالتَّشَكُّل. وبهذا نكون قد أسسنا أول مبدأ من مبادئ التفكير الجانبي وهو أن إدراك الفكرة السائدة يشكل عائقاً بدلاً من كونه عاملاً مساعداً.

الفصـل الـرابع

 بما أن من يكتب عن التفكير الجانبي مُعرَّض للضياع في فوضى كلماتٍ وأفكارٍ وهمية، رأينا تقديم تجربة ملموسة لاستخدام التفكير الجانبي. ولتأمين أرضية يجري عليها التدرُّب على الأفكار الجانبية، عمدنا إلى تحويل عمليات الأفكار العامة إلى أشكال مرئية ليساعد هذا التدريب على تكوين أساسٍ لوصفٍ تجريدي في مناسبات أخرى.
تعتبر أي قضية جزءاً من العالم الذي يشكل البيئة المحيطة لها. ولو أمعنَّا النظر لرأينا أن أية قضية أو حالة يمكن أن تشمل العالم كله. وكلما ركَّزنا انتباهنا على جانب من هذه القضية استطعنا التوصل إلى إدراكٍ جديد لها. وما الإدراك إلا نتيجةً للمعلومات التي نحصل عليها عبر الحواس الموجهة لذلك الجانب. أي أن جميع الحواس تساهم في بناء الإدراك لكن إحداها يمكن أن تفي بالغرض.

في الشكل الأول حالة بسيطة بالأبيض والأسود. ولبساطتها نستطيع أن نركزعليها كاملةً كمُدرَكٍ منفردٍ عن طريق النظر. لهذا يمكن استخدام هذا الشكل في تمثيل حالات أكثر تعقيداً تتطَّلب عدة حواس. رغم أن هذا الشكل بسيط لكنه غير مألوف لأنه لايملك اسماً معينا ولايمكن وصفه بكلمة واحدة مثل: مربع، مسدس، أو صليب. مع ذلك هو لا يحتاج لتحليل أو إدراك أعمق.
لا تظهر ضرورة وصف هذا الشكل إلاّ عندما نودُّ مساعدة شخصٍ لا يراه على إدراكه. ويشبه هذا الوصف للشخص الآخر عملية وصف الشكل لذاتنا والذي يعتبر عملية فهم ليس إلاّ. لوصف هذا الشكل غير المألوف لابد من استخدام كلمات مألوفة كوسيلة للتواصل. إذ يمكن تشبيه هذا الشكل بشكل آخر ثم نبيِّن بعض الفروقات. كما يمكن تقسيمه إلى أجزاء مألوفة ونبين العلاقة التي تربط هذه الأجزاء.
عند تفكيك الشكل الأول يظهر لدينا الشكل الثاني الذي يمكن وصفه بطرقٍ مختلفةٍ منها:

أولاً: قضيبان متوازيان يفصلهما عرضاً قطعتان من موقع داخل عن نهايتي القضيبين.
ثانياً: لوح أفقي مرفوع عن مثيله بدعامتين عموديتين.
ثالثاً: مستطيل دُفِع ضلعاه القصيران إلى منتصف المسافة نحو المركز. وعلى من يسمع الوصف أن يعيد تجميع الشكل في ذهنه كما يجمع قطع آلة معينة حسب تعليمات التجميع. هناك طرق أخرى كثيرة يمكن إجراء الوصف فيها لأن تقسيم الشكل أمرٌ ذهني عشوائي بحت.
ويمكن وصف الشكل الثالث على أنه مزرابين موضوعين على جنبيهما ومفصولين بقطعتين متعارضتين واحدة من الأعلى والأخرى من الأسفل. والشكل بمجمله بنية واحدة موحَّدة العرض.

يمكن وصف الشكل الرابع على أنه حرفَا L قُلِبَ أحدهما على الآخر ليشكِّلا مستطيلاً لكن طرف كل منهما يمتد بقطعة إضافية. يتميز هذا الوصف بأنه مُرهِقٌ للسامع وربما استحال فهمه إلا إذا كان السامع يعرف أبعاد وماهية الحرف L تماماً. يعتمد وصف الحالة على العبارات المألوفة التي يرغب المشاهد أن يستخدمها وليس على الوصف الأمثل.

لأجل وصف حالة معينة نبتكر كلمات جديدةً تأخذ كينونةً خاصةً وتحافظ على استمراريتها، أي أنها لاتموت بعد أداء وظيفتها التي شكَّلت مبرر وجودها وهو الوصف. وكلما كانت صلاحية النص قابلة لتفسير حالات أُخرى كلما تكرِّس دوامه واستمراريته. أي أن الكينونات العشوائية الجديدة تكتسب قوة تتناسب طرداً مع فائدتها حتى تصبح وجوداً لاشك فيه. وتتحول هذه الكينونات في هذه المرحلة إلى عائقٍ حقيقي أمام التقدم. ولتجنب هذه العوائق ولمنع الكينونات من تجاوز دورها علينا أن نتذكر دائماً طبيعتها العشوائية.

يتميز الشكل الخامس بتقسيمه إلى عناصر أكثر إلفةً من التقسيمات السابقة لكن تظهر صعوبة في وصف العلاقة بين تلك العناصر التي تعتبر دليلنا في إعادة التجميع. أي أن العناصر المألوفة وحدها غير كافية لاتحقق الوصف المثالي. لابد من الموازنة بين إلفة العناصر وإلفة العلاقة.
إن تقسيم الشكل غير المألوف إلى عناصر مألوفة قضية انتقاءٍ شخصيٍ بحت. ومن الطبيعي أن نكف عن التقسيم أو البحث عن علاقة جديدة بعد أن نتوصل إلى الوصف المناسب. لكن أليس هناك وصفاً أفضل من الذي رأيناه مناسباً؟ الجواب نعم، لكنه لايظهر بعد اعتبار الوصف الأول مناسباً؛ فالموافقة على الوصف الأول يشكل عائقاً أمام البحث عن الأفضل.
إذا كانت القطع التي ظهرت في التقسيم العشوائي وسيلة للوصف، يجب أن تفقد قيمتها بمجرد أدائها لوظيفتها وهي الوصول إلى الشكل المتكامل. أما عندما تكون القضية قضية تفسيرٍ أكثر مما هي قضية وصف تكتسب هذه القطع أو العناصر قيمة بحد ذاتها ولم تعد معدَّةً للتجميع. وهنا يصبح دور التقسيم مختلفاً ننسى عنده وجود القطع العشوائي وهدفها المؤقَّت. فنتورط في اعتبار القضية ناتجة عن هذه القطع.
إن إمكانية تفكيك البنية إلى قطع لا يعني أبداً أن البنية ناتجة عن هذه القطع. وهنا يحصل التباسٌ بين الإبتكار العشوائي للقطع وبين إدراك القطع واستخلاصها من البنية الكلية.

في الشكل السادس يتم التقسيم على أساس قطعتين من الحرف اللاتيني الكبيرI أو مقطعاً عرضياً من عارضتين معدنيتين. أما العلاقة بينهما فبسيطة جداً: إنهما موضوعتان جنباً إلى جنب. وكأن اختيار القطع اعتمد العلاقة البسيطة أساساً.
أيٍ من التفاسير الخمسة هو الأفضل؟ الجواب: جميعها صالحة طالما أنها لم تفرِّط بأي جزءٍ من الشكل. جميع التفاسير تعتمد على نفس القدر من العشوائية. ولا يختلف وصف عن آخر سوى أنه يحتاج إلى بضع جمل إضافية أو يحتاج إلى جهدٍ أكبرَ في الوصف، لكنها جميعها متساوية من حيث قابلية تبنيها. يفضَّل وصفٌ على آخر إذا حقق فائدة أكبر مهما تطلب هذا الوصف من أشياء. فالمنهج لايفضَّل لذاته بل في سياقٍ ما، أو مناسبةٍ ما.
ما نقصده بالمناسبة هنا هو توفر العناصر المألوفة التي تلائم الشخص الموصوف له، أي معرفتنا لوقع العبارة على ذهن الموصوف له. في حال كون الموصوف له مهندساً فإن عبارة " مقطع عرضي لعارضة معدنية" هي الأنسب. إنها عبارة عشوائية لكنها العشوائية الأنسب لهذا المقام.
لو كان الشكل الأول واحداً من مخزون الأشكال المألوفة المتنامي لاستخدمناه في وصف حالات أغرب ولَمَا احتجنا إلى تقسيمه. عند تكرار الوصف يتحول الشكل غير المألوف إلى مألوف ليصبح قابلاً للاستخدام كأداة في وصف أشكال أخرى. ومع عملية التكرار يرتبط الشكل بسلوك يضفي عليه معنىً معيناً. وتخرج من النموذج أجزاءٌ تنفصل عنه كما تَطرَحُ تقسيمات معينة نفسها على الشكل مع عملية استمراره.

الأشكال (7-8-9-10) بسيطة بحد ذاتها ويمكن جمعها في شكل واحد لكنها صعبة الوصف بكلمة واحدة. يتمتع الشكل الثامن بخطوط طبيعية تجعل تقسيمه إلى عناصر أصغر أمراً سهلاً: إنها الوحدة T. ويمكننا فصل T من الأعلى ثم نعتبر الباقي T مضاعفة. كذلك نرى قابلية تقسيم الشكل السابع على أساس T. وهكذا تصبح الوحدة T مألوفة لدينا فنحاول استخدامها في تقسيم الشكلين التاسع والعاشر، فنجد أنها غير مألوفة مع الشكل العاشر.

يمكن تقسيم الأشكال(11-12-13-14) بترتيب الوحدة البسيطةT. كما يمكن فهم الشكل المألوف بالإدراك المباشر دون اللجوء إلى استخدام أشكال مألوفة أخرى. وهكذا تنمو الأشكال المألوفة باضطراد.
رغم أن الشكل الثامن يوحي باستخدام الوحدة T لكن اعتمادها يبقى أمراً عشوائياً. وما أكسبها وجوداً ذاتياً هو صلاحيتها ومرونتها في تفسير الأشكال (11-12-13-14). لكننا رغم هذا كله يجب أن نحتفظ بالحقيقة التالية: لم تُبْنَ الأشكال من T أصلاً مهما كانت صلاحية هذه الوحدة عالية في التقسيم. أي أننا لو قسَّمنا الشكل الثامن في بادئ الأمرعلى النحو التالي: قضيب أفقي مدعَّم من منتصفه بعمود أقصر منه، ويرتكز هذا العمود على قضيب أفقي أطول مدعوم بعمودين آخرين إلى الداخل من ذلك القضيب الأطول، لو فعلنا هذا من البداية لما فرضنا الوحدة T على بقية الأشكال. لايقل الوصف الأخير بمستواه عن وصف الوحدة T لكن فائدته قد تختلف فعلاً. أما القبول بوصف دون آخر فمن شأنه أن يسبب رفض التطور وإعاقة البحث.
لنفترض أننا اعتمدنا الوصف على أساس القضيب العمودي والأفقي في الشكل الثامن ثم اقترحنا الأساس T للشكل السابع. عندها سيقبله الكثير من الناس. بينما يعود، بعضهم فقط، ليرى فيما إذا كانت T صالحة للشكل الثامن. تبدو لنا هذه العودةُ لإعادة نقد الماضي أمراً طبيعياً لكنه غير كذلك على أرض الواقع. فقليلون هم الذين يعيدون النظر بأشياء قديمة بناءً على معلومات جديدة. ورغم أن T لم تكن متميزة في البداية لكنها اكتسبت أهميتها من خلال صلاحيتها.

كم من الناس يتجاهلون تفسيراً أصيلاً مفيداً ويبحثون عن تفسير أقل فائدة؟ إن الذين اعتادوا إعادة نقد الماضي يعودون إلى الشكل الخامس عشر ويرونه على أنه الشكل السادس عشر، أي يفككونه على أساس الوحدة T. ولو عرضنا الشكل الخامس عشر بعد ظهور الوحدة T الجديدة، لسارعنا إلى تفكيكه إلى الوحدة الجديدة، ولأهملنا وربما قاومنا أي تقسيم آخر ناسين أن الوحدة T هي مجرد قضية شخصية عشوائية ولا يحق لها إقصاء تفاسيرَ أُخرى قد تكون أفضل منها.

بما أن الشكل السابع عشر معقد، لابد من تفكيكه إلى عناصر مألوفة. لا تقدم الوحدة T إيضاحاً مباشراً ولو كانت هي الوحدة المألوفة الوحيدة لاضطررنا إلى استخدامها مهما كانت الصعوبات. يقترح الشكل الثامن عشر تقسيماً ناجحاً لكنه مايزال عشوائياً لأن الأشكال المألوفة قضية مرتبطة بالشخص صاحب التفسير. لاينبغي لهذا الإرتباط أو المحدودية أن تفرض نفسها على أناس آخرين لهم مصادرهم الأخرى.

يصعب تحديد مواقع الوحدات T في الشكل السابع عشر رغم بساطة الوحدة بحد ذاتها. كما يستحيل معها الوصف نتيجة العلاقة المعقدة التي تربط الوحدات. أما الشكل التاسع عشر فهو أبسط من السابع عشر لكنه ما يزال معقداً. يصبح الوصف سهلاً إذا ما حولنا الوحدة T إلى I كما في الشكل العشرين لأن العلاقة بين الأقسام الثلاثة ثابتة.

ليست الوحدة I إلا T مضاعفة وُضِعَت ساقُ الأولى على ساق الثانية. نلجأ لاستخدام الوحدات الكبيرة لأنها تبسِّطُ العلاقة فتحل الوحدة I محل الوحدة T. تُسْتَخدَم الوحدات الكبيرة على اعتبارها رئيسية دون ترجيعها إلى المحتوى T. إذن يتناسب تعقيد وحدة التقسيم عكساً مع العلاقة بين الوحدات. أي كلما بَسُطَتْ الوحدة كلما تعقدت العلاقة. وللموازنة بين الطرفين لابد من ابتكار مجموعات قياسية للوحدة الرئيسية يقترن فيها كِبَر الوحدة مع بساطة العلاقة في آن معاً.
للمجموعات القياسية فائدة كبيرة في وصف الأشكال المعقدة. لكن فائدتها محصورة بعدد من الحالات قياساً مع الوحدة الأساسية T. فمرونة وصلاحية الوحدة T تجعلها باقية في الذاكرة بغض النظر عن المجموعات التي يمكن اشتقاقها منها. إن بساطة الوحدة تجعلها واسعة الإستخدام. وإذا ما فقدت الوحدة T من الذاكرة فإننا نواجه اضطراباً عند فشل المجموعات المشتقة في تفسير الأشياء.

وعند إخفاء جزء من الشكل الحادي والعشرون خلف سحابة نميل إلى الإفتراض أن ذلك الجزء هو استمرار للخطوط المستقيمة على غرار الأشكال السابقة كما تقودنا قياسات الجزء الظاهر إلى تخمينات بخصوص الجزء المخفي على أساس الوحدة T. وعند انقشاع الغيمة في الشكل الثاني والعشرين، تثبت الوحدة T نجاحها.
تعتبر هذه النتيجة تخميناً طبيعياً يرافق الفرضيات. ربما كانتT  هي الشكل المألوف الوحيد المتوفر الذي نفسر الشكل على أساسه، سيما وأنها تحقق فائدة عالية. رغم هذا كله لا يمكن نفي صبغة العشوائية عنها ولامبرر لوجودها سوى فائدتها ولا يحق لها أن تفرض نفسها على أي شكل آخر نضطر لتطويعه مع هذه الطريقة العشوائية في الوصف. وإذا أتى شخص آخر بوحدةٍ أُخرى مألوفةٍ له لرأى الجزء الغامض بطريقته ويجب ألا نفرض عليه رؤيتنا. ويمكن هنا استخلاص المبدأ التالي: لايحق للوحدة مهما ارتفعت صلاحيتها أن تشكل عائقاً في البحث عن فرضيات أفضل أو أن تمنع استخدام وحدات أخرى كأدواتٍ للتفسير.
جميع وصوف الجزء الظاهر هي جيدة على حد سواء. وجميع وصوف الجزء المخفي هي سيئة على حد سواء. وما الفهم إلا محاولة استخدام أشياء مألوفة نحو هدفٍ معين. إنها الطريقة العملية التي نستخدم فيها مخزون الأشكال المألوفة الذي يتنامى يوماً بعد يوم.
يمكن استخدام الأشكال المألوفة بطريقة مختلفة وهي ترتيب النماذج التصورية على نهج التصادف أو حسب تناغم الأفكار. لم تُخلَق هذه الطريقة إلا لذاتها فهي لعب بالترتيب دون هدف. لكنه لعب ذا فائدة لأنه يزودنا بنماذج ممتعة تُحفَظُ في مخزون الأشكال المألوفة التي نحتاجها في الوصف. كما تزودنا لعبة الصدفة البحتة بتشكيلات لم يكن بالإمكان تصورها.

من جرَّاءِ اللعب بالوحدةT  ظهرت الترتيبات (23-24-25) وهي ثلاثةٌ من عددٍ لامحدود. ليس لهذه الأشكال هدفاً معيناً أو مبرراً ما. وعند إلصاق أجزائها تظهر الأشكال الممتعة بذاتها (26-27-28). لكننا لو لم نشكِّلها نحن من الوحدةT  لكان تفسيرها على هذا الأساس غامضاً. لايزيد اللعب بالأشكال من مخزون الأشكال غير المألوفة - والتي تتحول إلى مألوفة - فحسب ولكنه يزيد من عدد العلاقات وفرصة استنتاجها كما يخلق فرصة لإدراك العلاقة الناشئة بالصدفة. يؤمِّنُ اللعب مصدراً آخرَ للتجربة فهو يتمتع بميزة الأصالة في الشكل والعلاقات، الأمر الذي لاتبلغه الأشكال والعلاقات الناتجة عن وصف حالة واقعية. فالصدفة ليس لها حدود بعكس الخيال.

وعند التسليم بفائدة اللعب، كم هم القادرون على ممارسته؟ إنهم قلَّة لأنه من الصعب بلوغ شيء غير مقصود بشكل مقصود. وبكلمة أخرى: من الصعب الإنطلاق نحو اللامكان.

يختفي جزء كبير من الشكل التاسع والعشرين خلف سحابة لدرجة أن تفحص الجزء المرئي لا يفيد بشيء. نضع عدة ترتيبات افتراضية للوحدة T، ويستحيل علينا تحديد أصلحها، فنصبح بحاجة أكبر لفحص جزء أكبر خلف السحابة ثم يتبيَّن لنا استحالة المتابعة بالوحدةT. أما الشكل الثلاثون غير متطابق مع الشكل التاسع والعشرين وهو أقرب لوصفه على أساس الوحدة T. وعند وضع الإفتراض لغرضٍ معين يتوجب علينا تقييمه حسب درجة فائدته. وأثناء عملية التقييم نأمل في إيجاد نظرة مطوَّرة تزيد من تلك الفائدة. لكنه أملٌ لايجدي نفعاً إن لم نفعل شيئاً لبلوغه. وإذا ما بادرنا بالعمل وفق افتراض غير موفق سرعان ما يتحول هذا العمل إلى عائق في وجه تطلُّعِنا نحو الأفضل. وفي هذه الحالة يكون الإحجام عن العمل أفضل بكثير من الإقدام عليه. وربما بدأنا وفق افتراض تتبدى لنا فوائده فيغيب عن ذهننا الخطأ الذي وقعنا فيه وننسى التحقق منه من خلال إجراء مقارنةٍ بينه وبين الوضع الأصلي قبل العمل بهذا الإفتراض. وعند إزالة الغيمة السوداء يظهر الشكل الحادي والثلاثون ونكتشف أنه مركب من الوحدة L وليس من الوحدة T. ويبدو لنا للوهلة الأولى أن في الأمر خدعةٌ ما، لأننا تعوَّدنا على استخدامT فقط. وبعيداً عن الخداع، ليست الوحدةL غريبة عن الوحدة T. يبين لنا الشكل الثاني والثلاثون كيفية اشتقاق L  من T بمجرد إسقاط أحد الذراعين أو لنقل إن الشكل L مضمَّن في الشكل T.

إذن ليس هناك شيئاً مقدساً في الوحدةT  لا يمكن استبداله لكن استخدامها المستمر أوحى بهذه القدسية. ستظل T وحدة عشوائية استخدمت لوصف شكل أكبر ويمكن تفكيكها إلى وحدات أصغر كما يمكن تركيب عدد منها لتصبح وحدة قياسية أكبر. لو فككنا T لأصبحتL مُضافاً إليها قطعة صغيرة. ولو اخترنا L منذ البداية لركَّزنا تفكيرنا عليها واعتبرنا القطعة الصغيرة شيئا ً زائداً. عندها ستكون الوحدة الوصفية أكثر تعقيداً من الوحدة T. ليس من السهل أن نغيِّب عن أذهاننا الأشكال المألوفة التي جنينا منها فائدة ما، بل نشعر بالالتزام نحوها. الأمر الذي يجعلنا ننسى طبيعتها العشوائية كما ننسى مبرر وجودها. وإذا واجهنا شكلاً جديداً فإننا نوظِّف جهودنا في إجراء التجربة بقرائن مألوفة استُخدِمت سابقاً بدلاً من المحاولة في أشكال جديدة. تخيَّلوا هنا كم من الحالات فشلنا في فهمها لأننا قيَّدنا أنفسَنا في استخدام المألوف فقط ونسينا أن المألوف نفسه بحاجة إلى إعادة تقييم.

يوضح الشكل الثالث والثلاثون الوحدة T مفككة إلى أربع قضبان. وما منعنا من استخدام هذا القضيب كوحدة وصفٍ هو العلاقة المعقدة بين العدد الكبير من القضبان. الأمر الذي سيجعل الوصف عاجزاً إذا ما قورن بالوحدة T. وربما كان من المفيد التعمق في استخدام وحدة القضيب الصغير بعد التعرُّفِ على الوحدة T في المرحلة الأولى للوصف، لأن القضبان تتميز بالاستخدام الواسع. فالوحدات البسيطة أقدر على وصف عدد أكبر من الأشكال.
ينطبق ما سبق شرحه على تطور المعارف بشكل عام ومع تزايد المعارف يبرز مفهوم قياسي يشبه الوحدة T لأنها تثبت صلاحيتها في تفسير الظواهر الطبيعية. وعند مواجهة مسألة أكثر تعقيداً قد نلجأ إلى الترتيب القياسي للمفهوم الأصلي. وعند مواجهة مسألة يعجز معها المفهوم الأصلي أو ترتيباته القياسية لا بد من ظهور مفهوم أبسط وأشمل. عندها نعتبر المفهوم الأصلي مشتقاً منه لِمَا يثبته من قدرة على تفسير جميع الظواهر الطبيعية المطلوب تفسيرها في تلك المرحلة.

متى تظهر الحاجة إلى تقسيمT؟ تظل الوحدة T تتمتع بمنزلةِ أبسط وحدة رئيسية حتى تواجه حالة ً تفشل في وصفها، فتسفر عن عجزها. هناك حالات كثيرة تم تفسيرها على أساس T وتنتظر منَّا إدراكاً أعمق في مراحل أكثر تقدماً. وربما احتجنا إلى تقسيم القضيب إلى مربعين وهكذا دواليك.
لقد بدأنا الوصف باستخدام أقسام كبيرة وعلاقات بسيطة. وانتهى الأمر إلى استخدام وحدات صغيرة أشمل ذات علاقات بسيطة أيضاً. لايمكن الوصول لهذه العلاقة البسيطة إلا عبر المراحل التي شكَّلنا فيها مجموعات قياسية للوحدات الرئيسية، ثم مجموعات قياسية لمجموعات قياسية. وهكذا يتحول المربع إلى قضيب والقضيب إلى T وT إلى I.
الخلاصة: في جميع مراحل الوصف، تبقى الوحدات عشوائية يشكِّل الإلتزام الكامل بها مانعاً لظهور وصفٍ أفضل مهما بلغت صلاحيتها.

الفصل الخامس


يمكِننا تلخيص التفكير الجانبي في أربعة مبادئ مرنة قد تتسع لمبدأ خامس لاحتواء بعض ميزات ذلك التفكير. المبدأ الأول هو تمييز الأفكار السائدة المُسْتَقطِبَة. والثاني هو البحث عن رؤيةٍ جديدةٍ للأشياء. والثالث هو التخلص من السيطرة المتزمتة للتفكير العمودي. أما الرابع فهو الإستفادة من الصدفة.

لقد ناقشنا في الفصل السابق الأفكار السائدة من خلال التمرين البصري بدلاً من الكلمات لتكوين أساس واقعي للتفكير الجانبي. وتوصلنا من خلال ذلك التمرين إلى امكانية وصف الشكل البسيط بعدة طرق كلها مناسبة على اعتبارأنها تؤدي الغرض بدقة. اما اختيار إحدى الطرق فكان عملية عشوائية. وربما توقَّف اعتماد إحداها على القناعة والبساطة أو الإنسجام بين الوحدات المستخدمة. كان المُشاهِد عندئذ يدرك أن الاختيار عملية عشوائية يمكن تبديلها بكل بساطة. لكن مع مرور الزمن ومع تعزز القناعة بها ننسى عشوائية الأمر ونصبح مؤمنين أن الخيار المعتمد هو الطريقة الوحيدة. وهنا يتحول الشيء الشَّرطي المؤقت إلى إمكانية وحيدة - خصوصاً عند نجاحها - وتصبح T هي الترتيب الوحيد.

في هذا الفصل سنبحث اختيار النظرة الجديدة الذي غالباً ما يتم بشكلٍ عرَضي دون تَفَكُّر عميق في النظرة الأفضل. غافلين أثرها المهيمن الخبيث، نختار نظرة لا على التعيين لأن تفضيل إحداها أمر غير ممكن. فالكأس المملوء نصفه يراه المتشائم على أنه نصف فارغ أما المتفائل فيراه على أنه نصف مملوء. لا ضير في اختيار إحدى الطريقتين طالما أن القصد من الموقف مجرد وصف ولا يُظهر دور الطريقة الخطير إلا عندما نواجه مشكلةً في مرحلة ما بعد الوصف.
ها هي قصة الحصى تأتي بمشكلة مستعصية من زاوية معينة، وعند تبديل النظرة - أي عندما ننظر للحصى المتبقية بدلاً من الحصى المسحوبة - يختلف الأمر برمته. وربما كانت حيلة بطاقات اللعب الثلاثة مماثلة لقصة الحصى إذ يقوم المخادع بتقديم ثلاث بطاقات وجْهُهَا للأرض ويطلب من الآخرأن يسحب الملكة. ثم بخفة اليد يترك للآخر فرصة الفوز بالمال. وبنفس الطريقة يستحيل بعدها الحصول على الملكة. هنا يغير اللاعب موقفه ويراهن على أن البطاقة المقصودة ليست الملكة.
يترك التغيير أثراً كبيراً مهما كان طفيفاً. ومثال على ذلك أحد أهم الإكتشافات العلمية الذي ظهر عندما غيَّر إدوارد جينر نظرته من (لماذا يُصاب الناس بجدري الماء؟) إلى (لماذا لا تُصاب عاملة الألبان بهذا المرض؟) لأنها تكتسب مناعة من خلال جدري البقر غير الضار. ومن هنا أتى اللقاح الذي أنهى كارثة جدري الماء في العالم الغربي. أشار أحد مساعدي تشارلوك هولمز وهو الدكتور واتسون أن كلباً معيناً لن يجدي نفعاً في معالجة القضية التي كانوا يحققون فيها لأنه لم يقم بأي تصرف كما فعلت بقية الكلاب. أما تشارلوك هولمز فقد نظرلنقيض الشيء واعتبر عدم قيامه بسلوكٍ ما ذات مغزى عظيم استطاع من خلاله حل اللغز. ويقال أن سبب تورط حكَّام أوروبا في القرن التاسع عشر يعود إلى تظاهر الدبلوماسي النمسوي المكَّار الأمير ميترنخ أنه لايفعل شيئاً.
 ليس من الصعب تبديل النظرة من حالة الوضوح إلى حالة الأقل وضوح إذا ما تعود المرء على ذلك فهو لايحتاج لأكثر من تبديل وجهة التركيز. تجعل الممارسة المستمرة وتعدد النظرات أمراً ممكناً خصوصاً في حال اهتمام الشخص في هذا المجال وإدراكه فعالية تغيير وجهة النظر. وربما كان خير مثال على هذه النقطة هو كأس الماء وكأس الخمر. إذا أخذنا ملعقة خمر من كأس ووضعناها في كأس من الماء وحرَّكنا المزيج ثم أخذنا ملعقة ماء من كأس الماء ووضعناها في كأس الخمر وكررنا هذه العملية عدة مرات، هل هناك خمر في كأس الماء أكثر مما هناك ماء في كأس الخمر؟ ستكون المسألة مملة جداً إذا ما حسبنا الكميات مرحلةً مرحلة وعددنا المكاييل الواردة إلى كل كأس لنتبين الفرق في التركيز في كل مرحلة. يمكننا تغيير تركيزنا من النظر إلى المرحلة إلى النظر إلى النتيجة ليصبح الحل في غاية البساطة لأن عدد الملاعق الخارجة من الكأس تساوي عدد الملاعق الواردة إليه. إذن النتيجة هي كما كانت في البداية، أي أن كمية الخمر الخارجة تساوي كمية الماء الواردة. ويمكن تبديل الإنتباه بسهولة من قسم لآخر أو من مرحلة لأخرى ضمن المسألة الواحدة، أما الطريقة الأساسية للمسألة فتبقى كما هي. وتكمن الصعوبة في تغيير الأقسام نفسها.
يقسِّمُ العقلُ العالَمَ من حولنا إلى وحدات منفصلة. ويعود هذا التقسيم جزئياً إلى تنظيم الدماغ وما ينتج عنه من مجالات انتباه معينة. نقوم بهذا التقسيم كي نفهم الأشياء مستخدمين أجزاءً مألوفة سابقاً. وهذا ماشرحناه بالصور في الفصل السابق. ولاحظنا عندئذ كيف تم استخلاص الأجزاء من الكل قصداً ومن ثم تمت مؤالفتها حسب علاقات ثابتة لإعادة بناء الكل. يمكن إدخال عملية التغيير عشوائياً في أي فرصة مواتية. ويمكن أيضاً ربط مايجري قبل التغيير بما بعد التغيير بواسطة العلاقة المألوفة بناءً على مبدأ السبب والمسبب. إن اختيار الأقسام التي تؤلف الكل محكوم بالإلفة والقناعة وبتوفر العلاقة البسيطة التي تعيد تركيبه. تعتبر العلاقة تسجيلاً لكيفية مؤالفة قطعتين قبل التقسيم. وعند تكرار التقسيم مرةً بعد مرة، تكتسب الوحدات هويتها المستقلة.
تماماً مثل أكياس الطعام الموضوعة على رفوف المتاجر، تتشكل علب المعلومات على طريقة تقسيم الأشياء وتنتظر الشخص الذي يختارها ويصنع منها وجبة شهية. ومن سوء الحظ إن ترتيب العلب يدعم وجهة نظرٍ ثابتة سابقاً. لذلك يُعتَبَر قبول المعلومات المعلبة إلتزاماً بالطريقة التي تتحول بها إلى فكرة.
تكتسب وحدات القناعة وعلب المعلومات أسماءً محددة فتصبح إلى أشكال جامدة غير قابلة للتحويل، لأن العلامة التجارية تُستَخدَمُ فقط لأنها غير متغيرة المعنى. ويصبح ضرورياً اعتبار العالم بناءً مؤلفاً من حجارة محددة نختبرها لتحديد ماهية الكل. وهنا تنتهي فكرة إمكانية تحليل البناء إلى قطعٍ وأحجام عشوائية.
يمكن وصف العكاز على أنها جزء معقوف متصل بطويق مع الجزء المستقيم. ويمكن وصفها على أنها جزءان أحدهما معقوف والآخر طويل مستقيم. إذن يمكن للخيال أن يقسِّم العكاز إلى أقسام عديدة بعيداً عن أنها قطعة خشبية واحدة معقوفة النهاية. تنبع مرونة الوصف من كون أقسام العكاز غير مسماة. وحالما نحدد تسمية هذه الأقسام يصبح أحد هذه الوصوف مناسباً أما بقية الوصوف فتتحول إلى مجرد تصورات.
تحدِّدُ الأسماءُ والمفردات طريقة النظر لحالةٍ ما. وتتلاشى المرونة الديناميكية للتفكير الجانبي الذي يحلِّل ويركِّب أقسام تلك الحالة إلى أشكالٍ لانهاية لها، كما تتلاشى معها فرصة النظرة الأمثل للأشياء. وعندما توضع الحالة في قوالب الكلمات الجامدة نضطر إلى وضعها في نموذج آخر لا يستطيع استيعابها. لقد بيّنَّا في الفصل السابق كيف يأتي زمن تعجز فيه الوحدة T عن وصف الحالة مما يضطرنا إلى تغيير الوحدة.
ترتبط قسوة الكلمات بقسوة التصنيف التي تؤدي بدورها إلى قسوة النظرة للأشياء. ففي فيلم ظهر مؤخراً كان البطل وأصدقاؤه في المشهد الأخير يحتفلون على سطح سفينة حربية وهم يتمتعون بمشاهدة الجزيرة التي تتناثر إرباً. كان على الجزيرة مجموعة من العلماء الشريرين الذين يحاولون أن يستخدموا قوتهم في السيطرة على العالم. أما سكان الجزيرة الذين بدوا بريئين فقد غسل العلماءُ أدمغتهم حتى أصبحوا مسلوبي الإرادة. وعند تسمية الجزيرة بالأرض الشريرة ووصف العلماء بالشريرين أصبح تفجير الجزيرة بمن عليها أمراً طبيعياً.
قليلون هم القادرون على التخلص من حديَّة الكلمات أو التصنيفات. يُروَى أن طياراً محارباً وجد صعوبة في أدوات التحكم عند قيادته الطائرة القاصفة. شخَّص الطيار العطل على أنه ثقب في جهاز التشغيل المائي (هيدروليك). لكن ليس هناك سائل في الطائرة لتعويض السائل الناقص. لقد نجا طاقم الطائرة لأن أحدهم اقترح حلاً بسيطأً وفعالاً وهو استخدام البول في تعبئة خزان الهيدروليك. لايخطر ببال الكثيرين هذا الحل لأن جهاز الهيدروليك بعيد من حيث التصنيف عن جهاز البول. وهناك مثال مشابه وهو أنه في أحد الأزقة الضيقة يضطرالسائقون للرجوع إلى الخلف مما يجعل معظم السيارات تتعرض للإصطدام. لم يكن للسيارات أضواء خلفية عندئذ. فكَّر أحدهم باستخدام الغمَّاز الخلفي الذي يومض بتقطع فيضيء الطريق. كان الحل مناسباً وصار يستخدم بعد ذلك. تُرى لماذا لم يخطر ببال الكثيرين استخدامه قبل ذلك؟ لأن تصنيفه (غمَّاز) وليس (ضوء إنارة).
للتخلص من هذه الحديَّة علينا أن نستخدم الصورة المرئية بدلاً من الكلمة. ويمكننا التفكير بشكل متماسك بهذه الطريقة لكننا نواجه صعوبةً عندما نود التعبير عن ذلك التفكير. ومن سوء الحظ إن القادرين على التفكير بالصورة المرئية هم قليلون وقليلة هي الحالات التي يمكن نقدها بطريقة الصورة المرئية. لكن يجب أن ندرِّب أنفسنا عليها لأن للصورة المرئية مرونة ومطواعية لا يمكن أن تصل إليها الكلمة.
لا يقتصر التفكير الرؤيوي على استخدام الصورالمرئية الأصلية كمادة للفكرة بل يمتد ليستفيد من الخطوط والأشكال البيانية والألوان والمصوَّرات والأدوات التي تشرح العلاقات بطريقة يصعب شرحها باللغة العادية. كما تتميز الصورة بأنها تُغَيّر الشكل بسهولة بتأثير العملية الديناميكية ويمكنها إبراز آثار العملية الحاضرة والماضية والمستقبلية في آن معاً.
يمكن أن نتخلَّص من الأجزاء الثابتة للمسألة عن طريق تفكيكها إلى أجزاء أصغر ثم نعيد تركيبها في وحدات جديدة أكبر كما فعلنا مع الوحدة T. لأنه من الأسهل أن نركب أقساماً ثانوية بصياغات مختلفة بدلاً من تقسيم الحالة الأساسية إلى أقسام جديدة.
تُقَيَّد الطرق التي ننظر بها للأشياء عند استخدام الوحدات المتوفرة المحدودة. أي أن العلاقات المحدودة تؤدي إلى نظرة محدودة. وكلما كَبُرَ مخزون العلاقات التي نستطيع استخدامها بثقة، كلما اتسعت النظرة للأشياء.
 بقليل من الجهد وبكثير من الممارسة نستطيع خلق نظرات جديدة ومتنوعة تمكِّنُنا من تجاوز النظرة التي تعتمد على الإحتمالية العليا.
قد نبذل جهداً للوصول إلى نظرة جديدة. ثم نكتشف لاحقاً أنها ليست أفضل من النظرة القديمة الواضحة. فكيف لنا أن نحدد فيما إذا كان التفكير الجانبي يستحق ذلك الجهد أم لا؟ وكيف لنا أن نقرر الإكتفاء بالتفكير العمودي؟
تظهر فائدة التفكير الجانبي في الحالات الإشكالية التي لا يتمكن التفكير العمودي من حلها. وكان خير مثال على ذلك قصة الحصاة التي ظل فيها الحل مستعصياً إلى أن نظرنا للمسألة نظرة غير عادية. هنا يُفَضَّل التفكير الجانبي مع أنه غير أساسي. المسألة بالتعريف هي حالة تتطلب حلاً يصبح بيِّناً جلياًً بعد إيجاده. وتبقى المسألة مشكلة لطالما أننا ننظر إليها من زاوية معينة، وعند تغيير النظرة تصبح القضية واضحة لدرجة أنها لم تعد مشكلة.
يمكن اللجوء للتفكير الجانبي عند الحاجة أو بشكل مزاجي. أما استخدامه دوماً فيضيع الكثير من الوقت في البداية لكنه يكسبنا مهارة عالية في ممارسته. وعند إتقانه ترتفع فعالية استخدامه عند الحاجة. وعندما يتحول إلى عادة عقلية يصبح مثمراً أكثر حتى في الحالات التي لها حلول عمودية.
قلما نشعر بالحاجة للتفكير الجانبي في غياب الحالات الإشكالية. وربما كان هذا عائقاً لأن عدم وجود مشكلة ظاهرة تجعل الأمور تجري على مايرام. ولن يحصل أي تقدم لطالما أنه ليس هناك مشكلة تعيق العمل. أي أن المشروع الذي يخلو من المشاكل محروم من فرصة التطور. وما المشاكل إلاَّ إرتجاجات تُخْرِجُ الأمورَ عن مساراتها المرسومه والهادئة. وهنا يظهر العائق الأكبر وهو صياغة المشكلة. وربما احتجنا إلى قدرٍ كبير من التفكير الجانبي لتحديد المشكلة التي لم يتم تمييزها بعد.
 في أواخر القرن التاسع عشر شعر الفيزيائيون بمتعة كبيرة لأن جميع حساباتهم ونظرياتهم متكاملة، فبدا لهم أنهم فسَّروا كل الأشياء، وما عليهم إلاَّ ترتيبها. اقتصر دور الفيزيائي عندئذ على إيجاد حسابات أدق ضمن الخطوط العامة للبنية النظرية المعروفة. وظلَّت الأمور هكذا حتى أتى بلانك وآينشتاين ليُبينا أن علم الفيزياء مازال في أوله وبعيد كلَّ البعد عن الإكتمال.
متى تكون (الكفاية) و(الرضا) و(غياب المشاكل) هي مسميات أخرى لـ (التلاؤم) و(عجز الخيال)؟ هل ما نراه مناسباً هو مناسبٌ ظاهرياً لأننا اعتبرنا النظرات الأخرى عاجزة، أم لأننا غير محتاجين للبحث عن طرق أخرى، أو لقصور خيالنا عن إيجاد تلك النظرات؟
الجواب الطبيعي هو أننا نرى الأشياء مناسبةً حتى تُبيِّن لنا معلومات جديدة عكسَ ذلك. لماذا لا نعكس الأمر ونطور نظرة جديدة لنرى إنْ كانت رؤيتنا السابقة مناسبة أم لا؟ إن إعادة تنظيم المعلومات ليس عليها أن تنتظر قطعية الحقائق الجديدة. بل يمكن أن نفعل ذلك عندما ندرك الطبيعة العشوائية للنظرية، وعندما نشعر بقدرتنا على تطوير نظرية أُخرى. ولإثارة دافع التطويرلا نحتاج إلا لقليل من الفضول وعدم الرضا عن النظرية القديمة.
من العجز أن نعتبر النظرية التي تفسر المعلومات المتوفرة أفضل من النظرية التي لم تكتمل بعد. كثير من النظريات غير المكتملة حلَّت محل نظريات متكاملة مغلقة لأنها تحتوي على قدرات كامنة أكبر، فترجيع الخسوف والكسوف لأسباب فيزيائية لم يقنع المؤمنين الذين يرون فيها غضباً إلهياً حتى توفَّرت المعلومات الكافية لإثبات ذلك.
من المفترض أن ليس لأحد أن يشك بتفسيرٍ ما حتى يقدم تفسيراً أفضل. يعتبر هذا المبدأ أقوى مثبطٍ للأفكار الجديدة. كيف للقديم والجديد أن يجتمعا دون أن يمسَّ القديمُ الجديدَ بأذىً ولم يكتمل الجديدُ بعد؟! ليس البحث عن فكرة جديدة بإطار القديم إلا ضياعاً للوقت، والمقارنة بينهما عملية مثبطة لا طائل منها. يمكن تشبيه هذه العلاقة بالجناس التصحيفي، إذ تتآلف الأشياء فيما بينها كي تشكل معنى ما. لكن تآلفها بطريقة جديدة قد يعطي معنى أفضل.
ليس هناك نظرة تمنعنا قدسيتُها من إعادة النظر فيها. ولكل شخص أن يشك بكل شيء متى شاء وعليه أن يفعل ذلك ولو لمرة واحدة في حياته. ولنا الحق أن نشك حتى بفعالية دوران العجلة الدائرية. من الخطأ أن نعتبر أن للمشكلة علاج واحد نؤديه بخبرة عالية. يَعتبرُ عموديو التفكير أن لكل مسألة طريقة حل واحدة ويعتبرون الطرق الأخرى مراحل على طريق العملية المنطقية، ويستاؤون من أي اقتراح يشكك بكلية قدرة المنطق ويتهمون التفكير الجانبي بأنه غير ذي فائدة.
لا بد أن تسبق المنطقَ مرحلةُ الإدراك الحسي. وإذا حصل خطأ في ذلك الإدراك تصبح المنطقية المبنية عليه عاجزة عن إيجاد الحل. وهذا مايحصل في الحاسب الإلكتروني، عندما يقدم المبرمجُ تعريفاً خاطئاً، يصبح الحاسوب عاجزاً عن إيجاد حلول بديلة. أما التفكير الجانبي فيتجنب الوقوع في هذا القيد لأنه يقوم بتجربة الحلٍ تلو الآخر وبشكل مقصود. وعند اختياره لعلاج معين فإنه يتابعه بمنطقية كاملة. ثم يحاول اختيارعلاج آخر وهكذا.
نفترض عند معالجة مسألة معينة أن مجموعة قيود تحدد مجال الحل. وهذا مايضع حدوداً يبحث التفكير العمودي عن حل ضمنها. وغالباً ما تكون هذه الحدود وهمية يقعُ الحلُّ خلفها. لنأخذ القصة الأبوكريفاوية مثالاً على ذلك: إنها قصة كولومبوس والبيضة. استفزه أصدقاؤه معتبرين اكتشاف أمريكا عملاً سهلاً لايتعدى متابعة الإبحار غرباً. طلب كولومبوس أن يوقف أيٌ منهم البيضة على طولها. حاول الجميع وفشلوا في ذلك. فأخذ كولومبوس البيضة، كسرها من طرفها وأوقفها. طبعاً احتج الجميع على ذلك وادَّعوا أنهم اعتقدوا أن بقاء البيضة سليمة شرط في اللعبة. أي أنهم افترضوا قيوداً غير موجودة أصلاً. لكنهم أدركوا عندها أن متابعة الإبحار دون هدفٍ محددٍ أمر صعب. ولم تظهر عظمة هذه الرحلة البحرية البطولية إلا بعد أن أبرز كولومبوس وهمية افتراضاتهم.
ينطبق الأمر على المعماري الإيطالي برونليتش الذي بنى قبة الكاتدرائية في فلورانس في حين افترض الجميع أن قبة كهذه مستحيلة البناء. ليس لدقة القصة التاريخية أهمية أمام الوظيفة التي تؤديها من أجل شرح موقف ذهني معين.
يعتبرعموديو التفكير الحلَّ الجانبي شكلاً من أشكال الغش. وهذا بحد ذاته يبرهن على فائدة التفكير الجانبي. أي كلما اشتدت اتهامات الغش كلما اتضح تقيُّدُ المتَّهِمِين بقواعد حادة وبافتراضات وهمية. الطريق إلى الأفكار الجديدة مسدودة بافتراضات زائفة بشكل أو بآخر. ويميل عموديو التفكير إلى وجود تلك الإفتراضات لأن عمل المنطق يتطلب مجالاً محدداً وهي المُسلَّمات. وعندما تصبح الحالة مرنة ويصبح كلُّ شيءٍ مجال شك يقع عموديو التفكير في قلق كبير. ومن هذه الفوضى اللامحدودة تنشأ الأفكار الجديدة عن طريق التفكير الجانبي.
بما أن العقل يميل إلى الإنطلاق بنقده من النقطة الأكثر إحتمالية، يصبح البحث عن نظرات بديلة أمراً غير عادي في ظل هذا الميل أو العادة. ولابد أن نتغلب على هذه العادة العقلية بشكلٍ مقصود. من الطرق التي يمكن اتباعها لهذا الغرض هي افتراض وجود عدد معين من النظرات إلى القضية قبل عرضها. لنقل ثلاثة، أربعة أو خمسة. وبعد عرضها يجب علينا أن ننظر للمسألة بعدد النظرات المفترضة سلفاً. تبدو هذه العملية اصطناعية بحتة وتبدو التفاسير التي صُنِعَت حسب الطلب عبثية إذا ماقورنت بالتفسير الطبيعي الواضح. ورغم عبثية الأسلوب لا بد من إملاء جدول الحلول بالكامل. وبعد الممارسة يتضاءل الجهد المبذول في إيجاد الطرق الجديدة وعندها تبدأ هذه الطرق بالظهور بمظهر الطريقة الطبيعية الواضحة.
أما الطريقة الثانية فهي قلب العلاقات رأساً على عقب. وبدلاً من أن نعتبر الجدران داعمة للسقف نراها مدلاَّة منه. وبدلاً من تحريك الطائرة كلها لترتفع من خلال اصطدام الهواء بالأجنحة، يمكن أن نترك الطائرة ساكنة ونحرك الأجنحة فقط كما نفعل في الحوامة. وبدلاً منا أن الشمس تدور حول الأرض، افترض العكس. وبدلاً من اعتبار أن الشيء يتحرك بشكل محدَّب في الفضاء، افترض أن الفضاء نفسه محدَّب. من السهل عكس الأمور بهذه الطريقة، لأنه إذا كان الإتجاه معرَّف فعكسه معرَّف ضمناً.
هناك طريقة ثالثة لأجل كسر جمود النظرة. إنها نقل علاقات حالة معينة إلى حالة أسهل. وبهذا نحوِّل الحالة المجردة الى مثيلتها الملموسة. هنا نضرب عصفورين بحجر واحد. الأول هو عدم انتقال قيود الحالة الأولى إلى الحالة الثانية كما هي، بل نستطيع تبديلها بسهولة. والثاني هو التلاعب بالعلاقات بعد إجراء القياس الخصيب. وبعد تبدلات القياس ننظر إلى الحالة الأصلية من جديد، الأمر الذي يثير أفكاراً جديدة وحلولاً جديدة. ومن ناحية أخرى نستفيد من إجراء القياس بصورة ملموسة تُسْتَوحى من صورة ملموسة أخرى وهذا ما يصعب فعله عند استيحاء فكرة مجردة من فكرة مجردة أخرى. وهكذا نرى تيار الأفكار الجديدة ينساب بسهولة أكبر.
الطريقة الرابعة هي تغيير وجهة التركيز من جانب لآخر في المسألة الواحدة. ليس من الضروري أن نعرف المسألة كاملة وبوضوح لأننا سنضع أحد جوانبها فقط في بقعة الضوء. تكمن الصعوبة في هذه الطريقة في اختيار الجانب الذي سيكون موضوع التركيز. أي علينا ألاَّ نهمل أي جانب مهما بدا بعيداً عن مغزى المسألة. أي على جميع الجوانب أن تأخذ حصتها في التركيز. ولم نكن لنجد لقصة الحصاة نهاية سعيدة لولا تغيير وجهة التركيز من الحصاة المسحوبة إلى الحصاة المتروكة.
ربما كان خير مثال على تغيير وجهة التركيزهو في مجال الرياضيات. ليست المعادلة سوى وضع طريقين لوصف شيء واحد. ويعتبر توفر هذين الطريقين حَجَرَيْ أساس لما لهما من فائدة عظيمة. وبما أن لدينا وجهتي نظر - كل واحدة على طرف من المعادلة - نستطيع أن نتلاعب بهما حتى نصل إلى الجواب. بالتفكير الجانبي، تمر الطرق في العقل بشكل متناوب وسريع. الأمر الذي يجعل الزمن والإحتمالات تُبْرِزُ تأثيرها الآلي على تقاطع طرق العلاج المختلفة فتعطينا الحل ذا الفعالية الأكبر.

الفصل السادس

ثالث مبادئ التفكير الجانبي هو اعتبار التفكير العمودي بطبيعته غير قادر على توليد أفكار جديدة بل معيقاً لها. ينزع معظمنا إلى التحكم الكامل بكل مايجري في العقل. أي أننا نُخضِعُ كلَّ شيء للتحليل والتركيب المنطقيين ونجهد أنفسنا بالوسوسة والتدقيق كما يحصل في أفلام التعرية السينمائية التي تقسِّم الحركة إلى سلسلة من الصورالساكنة. إنه نمط ذهني متطرف تستطيع كثير من العقول التَّخَلُصَ منه.
لقد بيَّنا في الفصل السابق حاجة التفكيرالعمودي لنقطة إنطلاق ولبنية أساسية نقبلها مبدئياً ثم نوسِّعها أثناء العمل بها. وقد يؤدي هذا التوسيع لتغييرٍ في تلك الفكرة لكن من المستبعد أن يؤدي هذا التغيير إلى فكرة جديدة، لأن مجرد القبول بها يعني الإلتزام بها والإبتعاد عن الفوضى الكامنة اللامحدودة.
حجراً فوق حجر، نرصف الطريق السببي الذي يشقه المنطق من خلال الخوض بأفكارٍ غير مُصَاغَة. يُوضَعُ كلُّ حجرٍ فوق سابقه بشكل راسخ كما يجب على كل حجر لاحق أن يتناسب مع سابقه. هذا هو جوهر المنطق الذي يفرض على كل مرحلة أن تكون صحيحة بحد ذاتها. أما التفكير الجانبي فيهتم بالنتيجة وليس بصحة المراحل. أي أننا نغوص في الوحل حتى نجد سبيلاً طبيعياً، وفرضُ الصِّحَة في كل مرحلة يشكل عائقاً.
كان ماركوني يحاول زيادة فعالية أجهزته، عندما اكتشف إمكانية إرسال موجات لاسلكية لمسافةٍ أطول. ثم تجرَّأ على بث إشارات عبر الأطلسي. بدا له الأمر قضية جهاز بث أقوى وجهاز استقبال أكثر حساسية. أصبح ماركوني يومها موضع سخرية الخبراء الذين لهم باع أطول في هذا المجال. لأنهم أكَّدوا له أن الموجات اللاسلكية تنتقل بمسار مستقيم – مثل الضوء – ولا يمكنها التحدُّب مع كروية الأرض وبالتالي ستنطلق في الفضاء. رغم أن مايقوله الخبراء هو عين المنطق، تابع ماركوني تجاربه ونجح في إرسال إشارة عبر الأطلسي. كان الخبراء ومثلهم ماركوني جاهلين لوجود طبقة مشحونة كهربائياً في أعلى الغلاف الجوي. إنها الطبقة المؤيَّنة التي تردُّ الأمواج بدلاً من تركها تسبح في الفضاء الخارجي كما قال الخبراء. استطاع ماركوني أن يتوصل لإكتشافه لأنه استمر في خطئه ولم يتقيَّد بالمنطق.
كما تم اكتشاف الأدرينالين من خلال انطباعٍ خاطيءٍ على يد الطبيب أوليفر الذي صنع أداةً اعتقد أنها تقيس قطر الشريان المعصمي الذي نتحسس منه النبض. جرَّب قياس الشريان عند ابنه في شروطٍ عديدة، وكان أحد هذه الشروط حقن خلاصة غدد الأدرينالين عند العجل. وعند قياس الشريان ظنَّ خاطئاً أنه تقلَّص، فلا علاقة للأدرينالين بقطر الشريان. أسرع الدكتور أوليفر ليُعلِمَ العَالَمَ عن اكتشافه فأخبر البروفسور شافر الفيزيائي المشهور. لم يصدِّق البروفسور ادِّعاء أوليفر لكن فضوله دفعه لحقن ذات الهرمون من كلب. وعندما أجريا القياس دُهِشا بارتفاعٍ غير عادي في ضغط الدم، وهكذا تم اكتشاف الأدرينالين.
يمكن أن نسوق هنا أمثلةً كثيرةً عن اكتشافات عظيمة أتت نتيجة استقراء في حلقة أخيرة من سلسلة لم تكن صحيحة في كل حلقاتها. ويمكن تشبيه الأمر هنا بالمشي على شاطيء صخري والذي يمكن أن يكون بأحد شكلين: الأول هو البطء، الحذر، والتأكد من توازن كل خطوة ورسوخ الحجر التي سنعتمد عليها في الخطوة اللاحقة. أما الشكل الثاني هو التحرك بسرعة وبهذا نجعل فترة الوقوف على كل صخرة قصيرة بحيث لا نضطر إلى التوازن الكامل. وعند الوصول إلى مكانٍ مريح نتمكَّن من النظر للخلف واختيار الطريق الأسلم للعودة إلى نقطة الانطلاق. وقدلا نستطيع تحديد الطريق الآمن إلا بعد الوصول إلى النهاية أي قد نحتاج الوصول إلى قمة الجبل لنتعرف على أفضل الطرق لصعوده.
يصبُّ المنطق اهتمامَه على ترابط المراحل منذ البداية، ولا يهتم بالنهاية. إنه ترابط ضروري لكننا يمكن أن نُقيْمه بعد الوصول إلى الهدف عبر التفكير الجانبي، تماماً كما نسلسله عبر التفكير العمودي. قد يَرُدُّ البعضُ بالحجة التالية: لا ضير من استخدام التفكير العمودي لطالما أنه يؤدي إلى النتيجة نفسها. ويعتبرون هذا نقطة إيجابية في التفكير العمودي في حين هي مأخذ عليه لأنه يبدي لنا توفيراً بالجهد مقارنة مع الجانبي ويبطن استبعاد البدائل في كل مرحلة من مراحله. من مساوئ التفكير العمودي أنه يسلك سبيلاً واحداً للوصول إلى النتيجة النهائية ولا يكلِّف نفسه عناء البحث عن طرق أفضل أو أقرب. أما التفكير الجانبي فيتابع البحث عن طرق أفضل حتى بعد الوصول إلى الهدف، لأن عدم التزامه بطريقة محددة يجعله في حالة بحثٍ دائمٍ.
من مساوئ التفكير العمودي أنه يستخدم المنطق - الوسيلة الوحيدة التي يتقنها ـ في البحث عن أفكارٍ جديدة. يوجِّه جهدَه باتجاهٍ واحد وكأنه ينطلق نحو مثابة محددة بقوة ودون تردد. لكن للأسف قد يكون التوقف أفضل بكثير من التحرك في الإتجاه الخاطئ. لا نقصد هنا إيجاد المبررات للكفِّ عن العمل لكننا نشجِّع على بذل بعض الجهد بالدوران حول المشكلة بدلاً من الكدح بلا كلل في الإتجاه الظاهر.
يقدم التفكير العمودي حلولاً مباشرة لكنها ليست مثالية وربما كان من الأفضل أن نذهب بالاتجاه المعاكس. ويمكن تشبيه الأمر هنا بموقع الحيوان من العلف. أي عندما نفصل الديكَ مثلاً عن علفه بشبك سلكي، يحاول جاهداً اختراق الشبك باتجاه العلف. ولو فعلنا الشيء ذاته مع حيوان درجة ذكائه أعلى كالكلب مثلاً، نراه يبتعد عن طعامه ليبلغه من وراء نهاية الشبك. من السهل الالتفاف عند وجود عائق يمنع الحل، لكن من الصعب البحث عن حل رغم سهولة الحل المباشر. والأصعب من هذا كله هو اختيار الإتجاه الآخر رغم سهولة الاتجاه الحالي. وهناك قصة أخرى توضِّح هذه العلاقة: أدَّعت امرأتان أمومة طفل فأُحْضِرَتَا إلى الملك سليمان. وبعد جدال، همَّ سليمان بقصِّ الطفل إلى نصفين ليعطي كلَّ امرأةٍ حصتها. ما أراده سليمان هو إقامة العدل وحماية الطفل، لكنه أخذ الإتجاه المعاكس لبلوغ هدفه. بطريقته هذه استطاع أن يتعرف على الأم الحقيقية التي تخلت عن الطفل لتحميه من الموت. أما الأم الزائفة فكانت مستعدة لأن تأخذ نصف الطفل ولاتتخلى عن حقها المزعوم.
إن عدم التزام التفكير الجانبي باتجاه محدد يجعله قادراً على الابتعاد عن المسألة كي يحلها. تخيَّل أن شخصاً يواجه سيارة بدأت بالكرِّ نحوه، ماذا تتوقع منه أن يفعل؟ ربما كان السلوك الطبيعي هو الهروب نحوالأسفل والبحث عن طريق آخر. وربما كان العكس هو الأفضل، أي أنه يسوق بسرعة نحو السيارة النازلة وبهذا تستطيع مكابح سيارته أن توقفها قبل أن تكتسب قوة التسارع.
أول قيد يحاصر التفكير العمودي هو صحة كل مرحلة من مراحله. أما القيد الثاني فهو ضرورة تعريف الأشياء بدقة. يميل العقل المستسلم للمنطق إلى تقطيع كل الأجزاء وتجفيفها. إنه العقل الذي تدل عنده الكلمة على معنى واحد ولا يحلو له التغيير ولايستطيع ان يترك الكلمات تتلوَّن كي تتناسب مع تيار الأفكار. أمَّا صاحب التفكير الجانبي قادرعلى أن يخطو فوق الكلمات بخفَّةٍ أثناء مروره السريع. بينما يوازن المفكر العمودي نفسه بقوة متأكداً من رسوخ مَداسِه.
ينهمك صاحب التفكير العمودي بتصنيف الأشياء كي يزيل الغموض فيصبح همُّه الوحيد تحديد المعايير التي تفصل الأشياء عن بعضها البعض. وتغالي بعض تلك العقول فتربط الفكرة برمز معيَّن ثم تربطها بأفكار أخرى عن طريق رموزٍ أعمق. يساعدُ هذا التصنيفُ الرياضيَّ على معالجة الأفكار لكنه يقيِّدها بأفكارٍ قد لاتتفق مع طبيعتها. وتشكل قسوة الرمز التزاماً يمنع تقلص الفكرة وتمددها فيحرمها من تطورها بعد أن فقدت مرونتها، تماماً كما تُمنَع مياه البئر من حريتها فتأخذ شكل الوعاء الذي تُسحبُ إليه. لقد بلغ الغرب تقدمه باعتماده على المنهج الرياضي لكنه كان نتيجة فترات من المرونة الإبداعية والصلابة التطورية.
من الأسباب التي تضع العقل أمام صعوبة كهذه هي رغبته في التعريفات الإحصائية. لهذا هو يطلق على الرمادي تعريفاً محدداً. أما التعريف الذي يعتبرالرمادي درجة لون بين الأسود والأبيض هو تعريف ديناميكي يترك المجال مفتوحاً للمرونة. في حين تشكل التعاريف الحَدِّية عائقا صعباً أمام الأفكار الجديدة ً.
انصبَّ اهتمامي مرة على البحث في قدرة العقل على ممارسة التهيؤات البصرية رغم معرفته بتناقضها مع المنطق. أجرَيتُ التجربة على شخصٍ خاضع للتنويم المغناطيسي فهو الأنسب لهذه التجربة لأنه يستقبل التهيؤات بسهولة وهو في حالة الغشية ويتم ربط تلك التهيؤات بإشارات معينة قبل استيقاظه، ثم ينفذ التهيوء عندما يرى الإشارة بعد استيقاظه. وكان التهيؤ عبارة عن شخص يدخل الغرفة فيتحدث معه. وبعد نهاية التجربة أبدى الخاضع للتنويم امتعاضاً كبيراً عندما أخبره الحضور أنهم لم يروا أحداً. وفي تجربة أخرى كان التهيؤ عبارة عن دائرة مربعة مرسومة على الجدار. كانت النتيجة مذهلة لأنه أكَّد رؤيته للمربع الكامل مع الدائرة الكاملة في شكلٍ واحدٍ. وأضاف أن هذا غير منطقي لكنه متأكد من رؤيته لدرجة أنه مسك قلماً وهَمَّ برسم نسخةٍ عمَّا رأى. وكلما بدأ بالرسم شطب ثم حاول ثانيةً رسم ما لا يمكن رسمه. لم يكن هدف التجربة التأمل المبهم الزائف بل التأكُّد من قدرة العقل على حفظ التجارب غير المنطقية في ساحة الوعي. في المراحل الأولى تبدو الفكرة متناقضة وغير مقبولة منطقياً، ولا نقصد هنا إمكانية تطويرها إلى فكرة جديدة فعالة.
في بادئ الأمر، تظهر الفكرة الجديدة بمظهر ضبابي لدرجة أنه يصعب علينا عرضها عرضاً منطقياً. هناك رغبة طبيعية تجعلنا نحاول سحبها إلى ساحة الوعي وإعطاءها شكلاً معيناً. نختار شكلاً خاصاً بها قد لايتناسب مع نموها. هنا تتحدد حرية حركتها كالفراشة التي ثُبِّتَت على لوحة ملتقطها فتموت الفكرة فور ظهورها لأن النظرة المنطقية لها تقحمها عنوةً في أحد القوالب القديمة. ومن ناحية أخرى، يؤدي التركيز عليها بالذات إلى عزلها عن محيطها ومصادرة نموها. ما نقصده بالتركيز هنا هو الإنتباه الذي يمنع بوهجه عملية النمو شبه الواعي التي من شأنها تطوير الفكرة.
بعيداً عن الإنتباه المنطقي المبكِّر، يتمتع العقل بأشكال غامضة مثل الأفكار التصورية وكأنها آلات أفكار سرمدية. صحيح أن العقل أحياناً يشعر أنه امتلك سرَّ الكون ثم يأتي الانتباه المنطقي ليحمي تلك التصورات فيعتبرها مضيعة للوقت. ربما كان بقاء هذه التصورات أفضل من إخضاع جميع الأفكار لمعايير المنطق في مرحلة مبكرة. وربما كان وجود أفكارٍ بعضها صحيح وبعضها خاطيء يفسح المجال أمام ظهور أفكار جديدة. أما وجود أفكار جميعها صحيحة وموثوقة يَحُولُ دون أي جديد. إذن التعبير عن الفكرة هو أفضل طريق لتنظيمها، وتنظيمها يعني إخضاعها للترتيب المنطقي. والتعبير المبكِّر عن الفكرة يلزمها بنمط معين قد لا تتبعه في الحالة الطبيعية.
مايدفعنا إلى الإسراع باستخدام التفكير العمودي هو عدم ثقتنا بالتفكير الجانبي. ولو توفرت تلك الثقة لرأينا الفكرة الجديدة تنمو من تلقاء نفسها وما علينا إلاَّ رعايتها. لا تحتاج الفكرة الجديدة لقالب توضع فيه بل لمراقبة أثناء نموها. وإذا ماتعثر هذا النمو، ما علينا إلاًَّ إهمالها، لأنها إن لم تأخذ شكلاً بذاتها لا فائدة تُرجى من إقحامها في قالب آخر. من الطبيعي أن يندفع العقل نحو الأفكار الجديدة. لكن الفكرة الجديدة تفقد خصبها عندما تتعرض للنقد القاسي. لذلك يجب أن تُتْرَك ضالةً حتى تنضج نضجاً يجعلها قادرة على الصمود. يجب أن نقاوم الرغبة بالنقد لأن نضج الفكرة الجديدة أبطأ بكثير من الرغبة في مَنْطَقَتِها.
من أفضل الطرق لمعالجة الفكرة الجديدة هي إخضاعها للتجربة تهرباً من تنبُّه المنطق لها من ناحية وإكسابها تسهيلات تجريبية من ناحية أخرى. تأخذ الفكرة شكل مشروع تجريبي فنقوم بتصميم التجربة ونحضر التجهيزات اللازمة، وإذ بالفكرة تتجمد في مرحلتها الوسطى. إن احتمال تطوير الفكرة أثناء تجريبها ضئيلٌ جداً لأن الكثير من العقول لا تغامر في تسليم الأمر للتجربة الجديدة. كما أن الفكرة لا تتابع النمو في كنف التجهيزات ذاتها بل ستحتاج إلى تجهيزات جديدة تتماشى مع تطورها. لا أريد هنا أن أقول أن التجهيزات المعدَّة سابقاً غير مناسبة بل أريد أن أُحذِّرَ من خطر الإسراع في برمجة الفكرة.
من غير المناسب وضع كل الفكرة الجديدة تحت التجربة لكن من الواجب إجراء ذلك على قسمٍ معين منها. ويقوم الحكم المنطقي بدور الصمام الذي يقع بين مفهوم الفكرة وبين تجربة فعاليتها. أي أن الفكرة لايمكن أن تصل إلى حيز التجربة العملية دون اجتياز ذلك الصمام. ويعتبر اختبار الفكرة التقائها مع عالمها الحقيقي حيث تمارس وجودها في العقل. وبعد اجتياز الفكرة لذلك الصمام في المرحلة الأولى يقوم صاحب الفكرة بالحكم المنطقي عليها بدافع الحماس. وقد تخضع الكثير من الأفكارللتجربة بدون موافقة صاحبها على يد الذين يتحكمون بأدوات التجربة. ما يعيق نجاح هذه الطريقة هو اعتماد المنطق على الخبرة الماضية. فالحكم المنطقي لا يأخذ في حسابه إلاَّ العوامل التي يعيها ولا يتعاطى إلاّ بالحقائق المتوفرة لديه. إذن فالتجربة تجري في عالم عقلي غير مثالي وحسب خبرة غير كاملة.
عندما اقترح أحدهم استخدام أداة الـ سياكلوترون - الأداة التي تًّستحدم في استخراج الطاقة النووية - أكد جميع الخبراء عدم صلاحيتها، وأيدوا حكمهم السليم بالبراهين والأدلة السائدة حول ضعف الفعالية. لحسن الحظ، لم يكن لهم يد في إيقاف تنفيذ الفكرة. أثبتت الفكرة نجاحها بفعل المجال المغناطيسي الذي لم يكن مرئياً، والذي عوَّض عن ضعف الفعالية الذي تنبأ به الخبراء قبل حصوله. ينطبق هذا المثال على الحكم المنطقي الذي أُطلِق على ماركوني حسب الحقائق المتعارف عليها وغيرالكافية. إنه حكمٌ منطقي خاطئ تماماً.
اعتبر الدكتور روبرت غودارد فكرته عن دفع الصواريخ الشكل الوحيد الذي يحقق الطيران في الفضاء. تحفَّظ الكثيرون على فكرته مبرهنين على رأيهم قائلين: " لا يستطيع الصاروخ الإندفاع في الفضاء لعدم وجود ما يستند إليه". وتبين بعد ذلك خطؤهم لأن اندفاع الصاروخ للأمام هو ردُّ فعل حتمي على قوة اندفاع الغاز.
كذلك اثبتت جميع الحسابات أن الآلات الأثقل من الهواء لايمكن أن تطير. وفي نفس العام الذي طار فيه الأخوة (رايت) لأول مرة، أصدر الكونغرس الأميريكي بياناً يقضي بمنع إنفاق أي أموال على التجارب العسكرية الهادفة إلى طيران الآلات ورفضت الدوائر المختصة منح أية رخصة لطيران الآلات أو طلبات آلات الحركة الدائمة. مع هذا كله أنفق معهد لانغلي في سميثونيان أموالاً طائلة في إنشاء طيارة ارتطمت أثناء إقلاعها، ورغم فشلها أثبتت أنها قادرة على الطيران.
ديكارت - المفكر العظيم – اثبت بالمنطق أن أثر الفراغ الذي يدَّعيه توريسيللي ليس له وجود على الإطلاق. لكن توريسيللي أجرى تجربة طريفة عجزت بها أربعة من الأحصنة عن فصل صحنين تم إفراغ الهواء بينهما.
نخلص من هذا كله إلى أن المعيار الأساسي لصحة الفكرة هو الإختبار وليس الحكم المنطقي. ليس بالإمكان تنفيذ الأفكار الجديدة كلها لكن من الممكن تعديل استخدامها إذا ما وضعنا في حسابنا قابلية الخطأ أو ربما عكس الإتجاه.
إحدى طرق تقييم الفكرة هي الخطأ المتعمد، أي بدلاً من أن نسرع في رفض الفكرة لخروجها عن المنطق، نقبلها وننطلق بها في جميع الإتجاهات: نحو الأسفل لنرى مايدعمها ونحو الأعلى لنرى ما قد تؤدي إليه. يحتاج هذا المنهج إلى قدر كبير من الممارسة وهو ليس بالبساطة التي تبدو عليها. يمكن تسمية هذا المنهج بـ العناد الذي نهدف منه الشك بوجهة النظر التي بُني عليها الرفض المنطقي أصلاً. وأثناء الدفاع عن فكرة نعرف أنها خاطئة تماماً، نكتشف وجهة نظرٍ أفضل.
لا يكتفي السياق المنطقي برفض الفكرة الجديدة بل يتعداه إلى تجاهلها تماماً لمجرد أنها لا تتفق معه. وكم نشعر بالأسف عندما نكتشف صحة فكرة رفضناها طويلاً! تحدث بالفور ستيوارت قبل سنوات عن طبقة مشحونة بالجو لكن فكرته أُهمِلَت لكونها جديدة تماماً، ولم تظهر فائدتها إلاَّ بعد إرسال ماركوني أول موجات لاسلكية عبر الأطلسي. عندها استطاع بريت وتيوف اثبات وجود تلك الطبقة عام 1952.
بتواضع وفخر، قدَّم غريغور مانديل تقريرا عن تجاربه على النباتات إلى جمعية برون بهدف دراسة الأمراض الطبيعية. لكن الجمعية لم تُعِر الأمر أي اهتمام. إن عبقرية هذا الراهب البسيط وحقيقة أن علماً وراثياً عظيماً يُولَد لم يعنيا شيئاً لمن سمعوا عنه، لأن المتحدث هو بستاني يعرض نظرياته حول الحيوانات الأليفة.
ماذا ينبغي على صاحب التفكير الجانبي أن يفعله؟ يجب أن يتجول ويتساءل ويلاحظ الأشياء لأجل الملاحظة. لايحاول تفسير ما يلحظ فوراً أو يحاول إنتزاع الفكرة من ملاحظاته بل يتركها تظهر من تلقاء نفسها ثم ينظر لها كشكلٍ مجرد لا يتأثر بالسياق أو الأهميـة. بهذه الطريقة يتعانق غنى الوعي المفتوح مع ما يُعْرَض أمامه دون الحاجة إلى التفسير أوالتصنيف أو البناء في كل لحظة. هنا تلعب الصدفة دورها في توليد الأفكار الجديدة. وهذا ما سنناقشه في الفصل السابع.

الفصل السابع

 استخدام الصدفة هو المبدأ الرابع في التفكير الجانبي. تبدو هذه العبارة متناقضة من حيث الظاهر لأن الصدفة بالتعريف لايمكن إيجادها قصداً. تكتسب الصدفة قيمتها من هذه النقطة بالذات. وربما كان خير مثال على ثمرة استخدام الصدفة ما يجنية منظِّمو طاولة القمار وشركات التأمين من ثروات طائلة.

لا يمكن استخدام الصدفة بالتدخل المباشر فيها بل من خلال خلق المناخ المناسب لحصولها بغية جني ثمرة التصادف. وكي نتعرف على قيمة الصدفة نسوق هذا المثال: تخيَّل أنك تلعب الـ (روليت) أي القِمَار بمالٍ ليس لك. فإن ربحت تحتفظ بالمكسب وإن خسرت يتحمل الغير تلك الخسارة. في هذه الحالة يُستََخْدَم القمار باتجاه واحد: أي أنك تربح ولا تخسر. ربما كنت غير متأكد من الربح في المرحلة التالية لكن إطالة اللعب هي دائماً في مصلحتك. وهل يرفض أحدٌ اللعبَ بهذه الشروط لكونه غير ملمِّ باللعبة كاملةً؟! تلعب الصدفة الدور ذاته في التفكير. علينا لممارسة الصدفة أن ندرك أولاً أننا نلعب القمار ذا الإتجاه الواحد وهذا يعني الثقة الكاملة بالربح الكبير الذي سنحرزه. ثانياً يجب أن نتعلم اللعب. وثالثاً علينا الإقدام على اللعب كلما سنحت الفرصة لكي نتجنب إيقاف اللعب مااستطعنا. ورابعاً يجب أن نتعلم تجميع ما كسبناه على الفور. ليست عملية جمع الربح صعبة في لعبة القمار لكنها ستكون ذات أهمية كبيرة عندما نضيف للعبة في مجال التفكير شرطاً إضافياً معقداً وهو خسران ما ربحناه إذا لم نتعرف عليه ونجمعه بالوقت المناسب. لا يغيِّر هذا الشرط من فرص الفوز لكنه يربط الربح بتمييز الفوز وجمعه.
في المرحلة الأولى علينا أن نتعرف على الأشياء القيِّمة التي ساهمت بإحداث الصدفة والتي أتت دون برمجة أو تخطيط. وهناك أمثلة كثيرة على هذه المرحلة منها اكتشاف هرتز للأمواج اللاسلكية عندما لاحظ شرارة صدرت من إحدى قطعِ جهازٍ كان يستخدمه، واكتشاف أشعة X عندما نسي روينتجن إزاحة شاسيه الـ فلوريسانت عن الطاولة وهو يلعب بأنبوب إشعاع كاثود، واكتشاف فائدة ملح الفضة الذي رفع حساسية ورق التصوير الضوئي عندما لاحظ داكوير وزميله الصورة التي تركتها ملعقة فضية كانت ملقاة صدفةً على سطح معدني مؤيَّن. كيف يمكن لهؤلاء جميعاً أن يكتشفوا كل هذا لولا الصدفة. صحيح أن داكوير كان قد بحث في عديد من المواد الكيميائية محاولاً العثور على مادة حساسة، لكن روينتجن وهرتز لم يسعيا وراء الأمواج اللاسلكية أو أشعة X لأنهما لم يعرفا بوجودهما أصلاً.
لكلٍ منَّا تجربة شخصية مع الصدفة، ولَكُم هذه الصدفة من تجربتي الشخصية. كنت أبحث عن مادة معينة في بحث علمي وكان عندي اسم الصحيفة المطلوبة، السنة، العدد ورقم الصفحة. عثرت على الصفحة المطلوبة ونلت منها أكثر مما أريد. لم أكن أدري أنها ليست الصحيفة التي كنت أبحث عنها بل صحيفة ملحقة مشابهة تماماً للصحيفة التي كنت أبحث عنها وتضمنت في الصفحة ذاتها معلومات قيِّمة لم أكن أقصد البحث عنها.
ليست أحداث الصدفة الفريدة وحدها التى تؤدي إلى أفكار جديدة لكن سلسلة كاملة من الظروف تشكل الأرضية الخصبة لها. مثال على ذلك هو قصة ألكسندر فلمنغ الذي عجزعن متابعة دراسة الطب لأسباب مالية. وبينما كان في لندن لغرض ليس له علاقة بالدراسة، لعب كرة الماء ضد فريق من مستشفى القديسة مريم. ثم صادف أن مات أحد أقاربه تاركاً وصية حصل منهاعلى مال يكفيه لمتابعة دراسة الطب. اختار فلمنغ تلك المستشفى لدراسته لعلاقته البسيطة بها والتي لم تتعدَّ تلك المباراة. كان الـ سير آلدموث رايت عالم البكتيريا العظيم يعمل في تلك المستشفى وكان لديه اهتمامات بكيفية تعامل الجسم مع الإلتهابات البكتيرية ويقوم بتجارب عملية بغية الخروج بنظرية في هذا المجال. سرعان ما انصبَّ اهتمام فلمنغ على هذه الأمور ووجد نفسه في أفضل بيئةٍ ومع أفضل مدرس. أثناء الحرب العالمية الأولى ومن خلال تعامل فلمنغ مع الحرب، لم يعد راضياً عن مضادات الإلتهاب السائدة لأنها كانت تخرب أنسجة الجسم وهي تحارب البكتيريا. وبعد عدة سنوات استنبت فلمنغ قطرةً أنفيَّة مقشعة ولاحظ أنها تثبط البكتيريا فكان اكتشاف الـ ليسوزايم وهو المضاد الطبيعي الذي يقتل البكتيريا دون إيذاء الإنسان. لكن لسوء الحظ كان تأثير هذا المضاد ضعيفاً.
لاحظ فلمنغ يوماً أن وعاء الإستنبات قد أنتج كتلة عفن كبيرة نتجت عن تلوث الهواء. انزعج فلمنغ لذلك لكنه لم يلقِ ما بالوعاء في النفاية. لم ينمُ في ذلك الوعاء يوماً كتلة بقوة تلك الكتلة ولم تستطع الجهود الحديثة حتى الآن أن تصنع كتلة مماثلة لما أوجدته الصدفة.
لم تتوقف سلسلة الأحداث عند ذلك الحدّ. لاحظ فلمنغ أثر البنسيلين على جسم الإنسان لكنه عجز عن استخدامه بشكل منتظم لعدم توفر الإمكانيات الكيميائية. وبعد عدة سنوات قرر تشين وأصحابه في جامعة أوكسفورد البحث في المشاكل الكيميائية المتعلقة بهذا الموضوع. ثم توالت الأحداث بسرعة ودفعت أحداث الحرب العالمية الثانية إلى استخدام البنسيلين بكثرة فأثبت فعاليته العظيمة كمضاد حيوي.
سارت سلسلة الأحداث دون أي رابط منطقي: مباراة كرة الماء، اختيار فلمنغ لمستشفى القديسة مريم، وجود الـ سير آلمروث رايت، الوصية غير المتوقعة، تجربة الحرب، اكتشاف الـ ليسوزايم، تلوث وعاء الإستنبات صدفةً، إنتـاج أكبر كتلة ثم قرار البحث عن الفعاليـة الكيميائية للبنسيلين. بالنظر الرجعي للأحداث لايمكن بناء سلسلة تقود إلى أفكار عظيمة. الأحداث بحد ذاتها لاتعني شيئاً. لكنها تُبرِزُ فائدة الصدفة عندما تشكل هذه الأحداث بمجملها شيئاً عظيماً لم نتمكن من رؤيته سابقاً.
كيف نصنع الصدفة؟ خير طريق لذلك هو اللعب الذي يثير التحرك دون تحديد الإتجاه. تماماً مثل التجارب التي نهدف منها تسريع حركة الطبيعة في مضمار البحث المنطقي، يشجع اللعب على إبراز الظواهر الطبيعية صدفةً دون قصدها بذاتها. إنها عملية في غاية الصعوبة لأن تحديد القصد أو توجيه أي جهد يحولان دون الوصول إلى الهدف.
تكمن أهمية اللعب في عدم فائدته التي نشعر بها بسبب غياب البرمجة والإلتزام. ولولا هذا اللعب لما استطاعت الصدفة إعادة ترتيب الأشياء بشكل لا يمكن حصوله إلاَّ بالصدفة. تجعل عبثية اللعب الناس يبتعدون عنه ولذلك يخجل عموديو التفكير من ممارسته، لكن عيبهم الوحيد أنهم غير قادرين على اللعب أصلاً.
اشتهر جمس كلارك ماكسويل – أحد أعظم العبقريات العلمية والرياضية – باللعب الدائم. كان يترك الجميع في حفلة عشاءٍ مثلاً وينشغل بالطرق على أدوات الطعام أو باللهو في إنعكاس صورة كأس أو ربما في قطرة ماء. أدرك ماكسويل قيمة اللعب منذ صغره عندما بدأ عمله العلمي بالدبابيس والخيطان نتيجة حضوره محاضرة للفنان هياي الذي عُرِفَ بهذا الأسلوب. توصَّل ماكسويل إلى رسم قََطْعٍ ناقصٍ بالخيطان والدبابيس. ومن هنا بدأ بشرح قوانين الضوء في تلك السن المبكرة التي منعت الآخرين من قراءة أفكاره لأنهم رفضوا قبوله في جمعية إدنبره الملكية حيث لا يُسمَح بدخول الذين مازالوا يرتدون سراويل الأطفال.
لماذا يتوقف الأطفال عن اللعب؟ ربما لأن العالمَ يتحول من مكان مجهول عجيب إلى مكان مألوف يخضع كل شيء فيه للتفسير. تثني هذه الإلفةُ السطحيةُ الأطفالَ عن اللعب. وتستمر الأمور هكذا حتى يصبح التفسيرُ سطحياً وغير مقنع. هنا تعود للعب متعته. يحبِطُ البالغون المنطقيون اللعبَ عندما يتهمونه بالعبثية وعندما يعرِّفون البلوغَ على أنه المسئولية التي تؤدي إلى سلوك مفيد.
تفرض بعض الأفكار نفسها أثناء اللعب وتتولد أفكارٌ أعمق. لم يعد من المفروض وضع الأفكار وفق تسلسل منطقي خصوصاً عندما يتوقف العقل عن توحيد أفكاره أو عندما يشغله فضولُه عن متابعتها. وأحياناً لاتظهر فكرة محددة من جراء اللعب لكن التأقلم مع اللعب يشكل أرضية خصبة لتطوير أفكار في المستقبل، أي أن فائدة الفكرة الجديدة قد لا تظهر إلاَّ متأخرة ً.
النوبة العقلية المفاجئة طريقة قديمة تزيد من فرصة تداخل الأفكار. تتبع هذه الطريقة عند التقاء مجموعة أشخاص لمناقشة مسألة ما. يضعون المنطق السائد جانباً ويقولون كل ما يخطر ببالهم. كل الأفكار مباحة ويمنع إتهام أية فكرة بالعبثية أوالشطط. يحتاج الأمر هنا إلى التدرب كي يتمكن الشخص من اقتراح أفكارغيرمنطقية أو يحجم عن انتقادها أو مراقبة الأفكار الآتية من الآخر. تهدف هذه الطريقة إلى إيجاد إثارة متبادلة تظهر من خلالها أفكارٌ كثيرة ناتجة عن التداخل العفوي.
وهناك طريقة أخرى وهي أن يُعَرِّضَ الشخصُ نفسه لمثيرات شتى من خلال التجوال في مكان يعج بأشياء غير مقصودة بذاتها مثل سوق عامة أو معرض أو مكتبة. لا يبحث المتجول عن شيء معين بل يترك نفسه ينجذب نحو كل مايلفت نظره لأن مايدفع العقل نحو الفكرة الجديدة هي أشياء بعيدة الصلة بالموضوع. ولا داعي لتحديد أهمية كل مانلحظه وكأننا نقوم بعمل جامع الخردة فهو يجمع ما يلفت نظره لأي سبب كان ويعمل العقل الباطن باستمرار على إيجاد أفكار جديدة لحل المسألة.
يمكن التجوال حول شيء يبدو ذا فائدة دون تحديد الفائدة بعينها. نترك هذا الشيء عائماً حتى يرتبط من تلقاء نفسه بجوانب المسألة الأصلية، فيترك أثراً خفياً وربما كان أثراً منظِّماً. وفي وقت لاحق يلعب هذا الشيء الذي ظهر صدفةً دوراً كبيراً في ظهور الفكرة الجديدة. تصلح هذه الطريقة مع الأفكار والنظريات التي تظهر عرضياً ولاتصلح مع القضايا الفيزيائية.
هناك طريقة أعمق تثيرالتداخل العفوي للأفكار من خلال جعل خطوط الفكر المنفصلة تتقاطع من جديد. لأن الخطوط المنفصلة بشكلها المعتاد قاسية الحدود فاصلة للمواضيع. وعند تقاطعها تنتقل الأفكار من خط لآخر فتنتج أفكاراً نقبلها مهما كانت ونستخدمها في تطوير موضوع آخر. تتحول الطريقة التقليدية في مجال معين إلى أداة تجديدية إذا ما استخدمت في غير مجالها الأصلي.
يولع العلماء في استخدام التبريرات السرينديبية (اكتشاف الأشياء النفسية والسارة صدفةً) ليدعموا موقفهم في قضية تبدو بعيدة عن التطبيق العملي. ويعثرون في معرض بحثهم على معلومات قيِّمة فتكون الخبرة محطة إجبارية للمعرفة. مانقصده بالخبرة هنا محاولة تنظيم الطبيعة بشكل مباشر أو التسبب بظهور معلومات فيما بعد. يحاول الباحثون ترتيب الأحداث حسب معرفتهم وإبداعيتهم وقدرتهم التقنية لكن تجاربهم لاتنتهي كما يريدون لها أن تكون فكثير من العلماء يبدأون بتجربةٍ وينتهون بأًخرى. وإذا ما جرت التجربة على نحو خاطيء تفسح أسباب عدم نجاحها المجال أمام معلومات تفوق المعلومات المطلوبة منها في حال نجاحها. لهذا السبب تتوقف التجارب أحياناً رغم نجاحها لأن ملاحظة عابرة قادت إلى اكتشاف أكثر أهمية.
هناك طريقتان لترتيب الأفكار: طريقة الوسائل المنطقية التي تؤدي إلى بناء النظرية وطريقة نتاج المصادفة. تشبه الطريقة الأولى ترتيب سلسلة من الأوراق بانتقاء الواحدة تلو الأخرى حسب مبدأ الإحتمالية العليا وجمعها بمشبك ورق. والطريقة الثانية هي سحب المشبك ورمي الأوراق على صينية دون أن تتكتل بمجموعات. ثم تُجمع الأوراق عشوائياً فتشكل سلسلة تصادفية يمكن تحديدها وتعريفها.
تضعف فعالية الطريقة العشوائية إذا كان عدد الأوراق قليلاً أو عندما تكون الأوراق على شكل مجموعات متماسكة. كما تضعف فعالية الصدفة عندما تتسم المعلومات بالتخصصية أو عندما تكون على شكل رُزَمٍ جاهزة. ولكي تقوم الصدفة بدورها في تشابك المعلومات لا بد من تحرير المعلومات السجينة من قوالبها القديمة المحصورة. وتعجز الصدفة عن توليد أفكار جديدة إذا ما اقتصر قبولنا على الأفكار ذات الصلة. فاختيار المعلومات ذات الصلة يعني الإرتباط بالأفكار الثابتة. ومن العبث تطوير فكرة جديدة بالإعتماد على فكرة قديمة لأن ترابط الأفكار بالتعريف هو إدراك مسبق لتلك الأفكار.
الحالة المثالية هي السماح للعقل بالحصول على المعلومات من أي مصدرٍ كان. وللوصول إلى هذا المستوى يجب تجريد المعلومات من عناوينها بهدف تحريرها كي تتمكن من التشابك الحر. وعلى الإنتباه أن يبقى مُرَفْرِفَاً فوق العقل مراقباً لا منظِّماً، يراقب التطور ولايطيل الإبتعاد كي يتمكن من إدخال الفكرة في قالب مناسب. العقل المثالي هو بيت مفتوح للمعلومات ومكان واسع يرحِّب بالجميع غرباءَ كانوا أم متطفلين، مدعوين كانوا أم ضيوفاً غير مرغوب بهم.
يعتبر المستوى الذي سبق وصفه حالة مستحيلة. فكمية المعلومات المتوفرة تتنامى بشكل مرعب لدرجة أن عدد الكلمات يتضاعف كل عشرة سنوات. وحتى في مجال التخصص، المعلومات ذات الصلة ضخمة جداً لدرجة أنها تعجز أكبر برامج الحاسوب عن استيعابها. والحل هنا هو تضييق مجال التخصص أكثر فأكثر باعتماد مبدأ درجة الإرتباط بالموضوع: أي أن المعلومات ترتبط بدرجات متفاوتة تتراوح بين قوية، ضعيفة وأضعف. بهذا الشكل نصل إلى نفس النهاية التي يصل إليها التفكير العمودي الذي يتبع الإحتمالية الأعلى. وهنا يضعف الأمل في إنتاج أفكار جديدة ناتجة عن تلقي أفكارٍ من مجالات مختلفة.
وتتعاظم المشكلة عندما يجد قارئ أي مجلة علمية صلةً كبيرة بالمجلات الأخرى. فكل المجلات الطبية مهما كان اختيارها عشوائياً هي ذات صلةٍ ولو يسيرة بموضوع ما. عندما كنت في هارفارد اعتدت أن أختار مجلة لا على التعيين عند مدخل المكتبة. ولم يصادف ولو لمرة واحدة أن خَلَتْ المجلة التي اخترتها من مقالة مفيدة. إذا كان الإختيارالعشوائي هكذا فما بالك بالبحث المبرمج. وللأسف تسوء العلاقة عند التعمق أكثر في موضوع ما. وعندما تقترب الفكرة من صلب الموضوع تصبح العلاقة بين المجالين بيِّنة. وبدلاً من التضييق يصبح مجال الإرتباط أوسع.
أجرى باستر بحوثاً شتى وفي مجالات عديدة بدءاً من تكاثر الأحياء إلى تخمر الخمور، ومن مرض دودة القز وكوليرا الدجاج إلى مرض الجمرة والكَلَب الذي اكتشف له طرق وقائية فعالة. وفي كل مرة كانت تساعده الصدفة. فنتيجة إهمال أحد مساعديه بالتعامل مع جرثومة كوليرا الدجاج المُسَتَنْبَتة فقدت الجرثومة قدرتها على التسبب بالمرض. لاحظ باستر أن هذه الجرثومة الضعيفة أمَّنت الحماية للدجاج. ظهرت هنا فكرة اللقاح بالجراثيم الضعيفة. ومن خلال تعامله مع الحمض الطرطيري لاحظ باستر أن المحلول الذي تخمر صدفةً كان يحوي نوعاً واحداً من ذلك الحمض. أما الحمض الآخر قد استُهلِك في تعضيات التخمر. هذا ما قاد إلى فصل النوعين وأضاف شيئا إلى تطوير الطرق السائدة في صناعة البيرة والنبيذ. ومن خلال ملاحظته لسلوك دودة الأرض المصابة بمرض الجمرة لاحظ باستر إنتقال المرض من الجثة المدفونة إلى حيوانات ترعى فوقها. أدرك باستر تماماً قيمة الصدفة لكنه كان يركِّز أكثر على أهمية جاهزية العقل لاستقبال تلك الصدفة.
يشبَّهُ العقل الذي يحسن الإستفادة من الصدفة بالميكانيكي الموهوب الذي يتمكن من تشغيل سيارة مُعطَّلة وليس من العدل أن نحسده إذا ما قام بتصليح سيارة بحالة جيدة لا تكلفه عناءً كبيراً.
ومن خلال النظرللأشياء تزداد القدرة على إيجاد الجو المناسب للأستفادة من المعلومات كما يتحسن مستوى التفكير الجانبي وتتطور القدرة على الإستفادة من الصدفة. فالصدفة ليست جديدة لكن الإستفادة منها هي الجديدة.
ومن الطرق المفيدة في هذا المجال هي طريقة اختيار شئ ما في البيئة المحيطة ومحاولة كشف ارتباطه بالموضوع المطروح للبحث. وعندما نضعه مع الموضوع في ساحة الوعي يستطيع التفكير أن يربطهما ببعضهما البعض. وقد يظهر ارتباط جديد بذلك الشيء عند ابتكار نمط جديد في العلاقة تمكنه من التقاطع مع خط فكري مُستَبْعَد. لا يكمن المعنى هنا في الشيء نفسه بل في وصف الطريقة التي يؤثر بها على العقل أو الطريقة التي يتلاءم بها مع نمط الفكرة الموجود سابقاً أو النمط الذي يتكون بسرعة ليعطي البيئة المناسبة للشئ وبالتالي يُكْسِبُهُ معنى.
تجعلنا اللامعقولية التي تشمل المواد ذات الصلة مضطرين أكثر من أي وقت مضى إلى الإعتماد على الصدفة التي تنشئ المؤثرات الجديدة.
من الرائع أن نركِّز على المسألة دون اعتبار محيطها. وعند عزل المسألة بهذه الطريقة تصبح قادرة على حل نفسها. كما أن عزل المسألة يمنع أثر الصدفة وبالتالي يمنع صياغة أفكار جديدة بسبب استبعاد العوامل الخارجية المؤدية إلى طرق معالجة جديدة. إذن التركيز على المسألة يعزِّز النظرة السائدة لها.
هناك طريقتان للتخفيف من عُقمِ التركيز. الأولى هي تحويله مؤقتاً نحو قضيةٍ أخرى ليس لها علاقة بالمسألة الأساسية، الأمر الذي يفسح المجال للخروج من الروتين. أما الطريقة الثانية فهي السماح للعوامل الخارجية بالتدخل لتبدل حدة النظرة التي نختبر بها المسألة، وهذا ما يجبرنا على الخروج من الروتين ويقودنا إلى شئ جديد.
إن استخدام الصدفة طريقة سلبية ويقظة في الوقت ذاته. وتكمن صعوبة استخدامها في إزالة القصد بشكل مقصود. كما يصعب توظيف جهد واع في سبيل تجنب جهد واع. يبقى انتظار حدوث الأشياء محل شك وريبة لأن الصدفة بالتعريف تعني أن لاشئ يمكن أن يحدث. لذلك نحتاج إلى اليقظة والسلبية في آن معاً. ومهما كان الإنتظار سلبياً لا بد من ظهور إغراء قوي نحو صياغة خط جديد. ويؤدي رفض الرغبة بالاستقرار على أحد خطوط الفكر إلى قلق كبير يجعلنا نبحث عما يلهينا عن ذلك الاستقرار. لكن بوادر الفكرة الجديدة تترافق مع ارتفاع مستوى المهارة في استخدام التفكير الجانبي، فتكبر ثقتنا بأنفسنا، وهذا مايجعل التفكير المُتَعَمَّد بفكرة غير موجهة شيئاً أسهل ومن ثم تساهم سهولة هذا التفكير في رفع مستوى فعاليته.

الفصل الثامن

الكتابة عن التفكير الجانبي والقراءة عنه شيئان شائكان. ومهما بلغا من الرقي لايصلان إلى واقعية ذلك التفكير. يأخذ وصف عملية التفكير الجانبي منحيان، الأول استخدام عبارات مجردة تضفي عليه الغموض فتجعله انطباعياً من ناحية وتفقده الحيوية التي تعتبر جزءاً من جانبه العملي من ناحية أخرى. والثاني يتجه نحو الوضوح الذي يجعله حشواً واجتراراً. ولسوء الحظ مهما كان وصف المبدأ واضحاً لايمكن استخدامه في تسهيل تطبيقه على أرض الواقع.
بما أن التطبيق العملي للتفكير الجانبي أهم من جانبه الفلسفي، فإن الطريقة المُثلى لوصف العمليات الجانبية هي في التركيز على جانبها التطبيقي، أي بالتحليل التفصيلي للعمليات التي كانت وراء الأفكار الجديدة والعظيمة في التاريخ. وبدلاً من التحليل الوصفي كدائرة أولى يجب علينا تحري ما سجله أصحاب الأفكار الجديدة كدائرة ثانية. تُسجَّل الأفكار بعد ظهورها بوقت قريب أو بعيد وربما تُسَجَّل من قِبَلِ مُريدي صاحب الفكرة أو المعجبين به. وعند استخدام طريقة الخطف خلفاً بعد الوصول لذروة النجاح، يصبح تعليله المنطقي أمراً سهلاً. ونميل أثناء عملية التعليل إلى اختيار بعض التفاصيل وتجاهل بعضها الآخر كي تتناسب الرؤية مع النهاية الناجحه. وقد يكون هذا التركيز أو التجاهل مجرد وجهة نظر أكثر مما هو خطأ متعمَّد. لقد صدق باستر القول عندما اعترف بعامل الصدفة. بينما ركَّزالكثيرون غيره على الإحكام المنطقي للعملية لأن الطريقة المنطقية تتمتع بمنزلة محترمة. وعند النظر إلى الوراء يسهل علينا إيجاد صيغة منطقية لأشياء ظهرت بطريقة غير منطقية.
بدلاً من استخدام الدائرة الثانية (أي تسجيلات حول الفكرة) يجب محاولة كشف ظهور الأفكار الجديدة الناتجة عن طريق التفكير الجانبي في الدائرة الأولى (أي التحليل الوصفي). وهذا ما سنركز عليه في هذا الفصل من خلال إدراج أمثلة ليس لها أهمية بحد ذاتها لكننا اخترناها لإبراز جوانب معينة من التفكير الجانبي. لهذا السبب لن نتعمق بالوصف إلاّ بحدود هدفنا منه. وقد اخترت هذه الأمثلة خلال السنوات الثلاثة التي ظهرت فيها فكرة هذا الكتاب. ولم أقصد بتلك الأمثلة تَعَلُّم ما يمكن فعله في التفكير الجانبي، فهي أتفه من أن تقوم بهذه المهمة. ليست المسائل المطروحة هنا سوى مناسبات نرى من خلالها العمليات العقلية التي تشكلت منها الأفكار الجديدة. وكمراقبين لهذه العمليات ليس لنا أن ندعي معرفةً أعمق مما يدعيه المتفرج على مسرحية ساحرة.
في جميع الأمثلة أخذت البساطة والفعالية حيِّزاً أكبر لأنهما هدفا التفكير الجانبي. وتعتبر المجاهدة نحو البساطة نقصاً فنياً يؤدي إلى تشتت الهدف ويورطنا في تعقيد أكبر. ليست الأمثلة المدرجة هنا بسيطة في طريقتها أو في أدواتها. فالأدوات شكل وضيع للإنتاج الذهني لكنها تحقق الوحدة أي أنها تملك بداية، وسط ونهاية.
كان اختبار ضغط الدم بسيطاً ومعروفاً لكنه تطلَّب تجهيزات ضخمة تُنْقَل على عربة كبيرة. وكانت تتألف من أداة قياس ضغط الكترونية مع مكبِّرها ومسجل يحدد تغيرات ضغط الدم ضمن الأوردة عندما يخضع المريض لاختبار تنفس، كما كان يمكن الكشف عن الفشل القلبي قُبَيْلَ حدوثه من خلال التغير في ضغط الدم. تمنى الأطباء لو أن هناك أداة توضع في الجيب! كانت أول خطوة نحو ابتكار هذه الأداة هي التخلص من فكرة ضرورة التسجيل. ولأن الأداة تقتصر على نمط التغيُّرالذي يمكن معرفته أثناء حدوثه، تم استبعاد فكرة تحويل التغيرات الطارئة على الضغط إلى تيار كهربائي ثم تكبيره بشكلٍ كافٍ لعملية التسجيل. وكانوا يلاحظون تغيُّر الضغط من خلال ارتفاع السائل في أنبوب. ولمعرفة تغيُّرات الضغط عبر الأوردة نبضةً بنبضة تطلب الأمر أنبوباً عالياً لكي يتمكن الطبيب من رؤيته. اقترنت فكرتان لأجل تطويرالأداة: الأولى ميزان الحرارة الطبي ببساطته وفعاليته. والثانية أتت من الذاكرة قبل عشرة سنوات عندما استُخدِمَت أداة قياس ضغط تتألف من أنبوب قصير مسدود الطرف حيث يضغط الزئبق الصاعدُ الهواءَ إلى الأعلى. اجتمعت في الأداة الجديدة فكرتا الأنبوب الشعري مع البصيلة والأنبوب المضَيَّق ذي النهاية المسدودة فكانت أداة تؤدي هذه الإختبارات على أكمل وجه.
لم تؤد الأداة الجديدة الغرض لجميع الفحوصات. كما أن صنعها صعب لما يتطلبه من أنبوب دقيق الفتحة. فكانت المرحلة الثانية لتطوير الأداة مع صدفة وجود لفافة من أنابيب النايلون على الطاولة، الأمر الذي قرَّب للذهن استخدام قطعة منها على أن تُرمى بعد استخدامها بدلاً من الأنبوب الزجاجي. حلَّت هذه القطعة التي تساوي ربما قرشاً واحداً محل الأدوات الضخمة التي تكلِّف آلاف الجنيهات. يبين هذا المثال فائدة التخلص من فكرة التصور المسبق ثم الرغبة في الحفاظ على المبدأ الذي بدا غير ملائم في بداية الأمر كما يبين دور الذاكرة وخاصة في الأثر المنبِّه لشئ بعيد الصلة بالموضوع.
هناك مثال واضح على الأثر المنبه الذي نعثر عليه صدفة ً: إنه (موازي العملات)، تلك الأداة التي لاتتعدى قطعة بلاستيك بسيطة يستطيع من خلالها المتسوق تحويل التسعيرة الأجنبية إلى العملة المحلية بسرعة. ظهر تصميم جديد لهذه الأداة على شكل x مرسومة على أرضية فاتورة وجبة الطعام في القطار البريطاني. وبدلاً من النظر للشكل على أنه x ينظر إليه على أنه v مضاعفة موضوع رأس إحداها تحت رأس الأخرى ولهذه الأداة مخطط بياني مع مؤشر. تتميز هذه الأداة بالإستخدام المباشر وكان يمكن الوصول إليها عن طريق التفكير العمودي لكن لم يحصل شيء من هذا.
تم البحث عن طريقةٍ لانتقال الموجات عبر سلك ينتهي بعدة مصابيح زجاجية. طُرحَت الفكرة أثناء عيد الميلاد فكانت الكرات المصفوفة على الشجرة سبباً في استخدام سلسلة من النواسات تنقل الطاقة بطريقة الرنين مع نوساتها البطيئة.
أما طريقة المنبه غير العفوي في التوجيه إلى الأفكار الجديدة فقد استُفيدَ منها وبشكل مقصود في تصميم أداة تختبرعمل الرئة. كانت هناك أدوات كثيرة قديمة تفي بالغرض لكن الهدف هو إيجاد أداة أرخص وأبسط. لم يكن هناك تصور مسبق عن الأداة الجديدة فاقتصر الأمر على الحَومِ حول الأداة القديمة حتى لفتت بعض الأنابيب البلاستيكية الإنتباه وهذا ماقاد إلى استخدام انبوب يصدر صوتاً عندما ينفخ المريض فيه. ومن هنا ظهرت أداة الـ كونسرتينا (نوع من الأكورديون المبسط) كمصدرٍ صوتي يشبة الصوت الصادر عن القصب. وبالإستفادة من الشَّبَّابة أتت فكرة تثقيب الأنبوب مع وضع صفارة في آخره. وكانت الثقوب على مراتب تندفع عنها أغطية فتصدر أصواتاً. أما مرتبة الثقب فتدل على سرعة الهواء الخارج من الرئة. لم تُجْدِ هذه الأداة نفعاً كبيراً لكنها قدمت الوسيلة التي تخلصنا بها من المروحة أوالمؤشر الدوار المستخدم في الأداة السائدة. الفكرة الجديدة التي وُلِدت هي استخدام درجة الصوت في تحديد مدى أداء عمل الرئة لوظيفتها. تتميز الطريقة الجديدة ببساطتها، وكونها مباشرة، استطاعت أن تخلصنا من الخطأ الصادر عن دوران المؤشر.
في مرحلة تالية، تطورت الفكرة بعكس موقع الصفير وثقوب تسرب الهواء لتُوضَع الصفارة في أول الأنبوب والثقوب في الجهة الأخرى. وهنا استُخْدِمَت القصبة الصغيرة في لعبة الـ كونسيرتينا. كانت فتحة التسرب متبدلة وكان من الصعب جعلها بسيطة وقوية في نفس الوقت فكانت فكرة التقوب الثابتة بدلاً من المتبدلة. وأثناء اللعب العشوائي بالأداة، سُدَّ الأنبوب من نهايته فظل يطلق صوتاً عند النفخ كما تبين بالصدفة أيضاً أن شكل الفتحة العادية للأنبوب تعطي صوتاً عادياً ثم استُخدمت فتحات مختلفة في نهاية الأنبوب عن طريق أغطية بلاستيكية مختلفة الفتحات. للحصول على صوت صفيري، لا بد من النفخ فيها بقوة كافية. وهنا يتم تحديد الهواء من خلال الفتحة التي تصدر الصوت. كان هذا الحل مدهشاً لولا ظهورعائق انعدام الصوت عند النفخ القوي.
ربما ستقتضي المرحلة القادمة من صنع الأداة وضع كل ما أُنجِزَ جانباً. ذات صباح، وأثناء إعداد الفطور سُمِعَ صفير من وعاءٍ على النار. سرعان ما تبين أن هذا النموذج من الأوعية يملك المبدأ المطلوب. وفعلاً تم تطوير صفير من الوعاء بإلصاق شريط ليِّن على أنبوب كرتوني استُخدِمَ في تعليق تقويم (روزنامة) حريري. وباستخدام الموسى فُتحت شقوق ضيقة في أحد جوانب الأنبوب. وتبين أنه كلما سددنا هذه الشقوق بإصبعنا كلما سهل استمرار صوت الصفير. ثم كان التعديل الأخير وهو سد الشق بانزلاق الأنبوب البلاستيكي داخل وخارج الأنبوب الكرتوني المنفوخ فيه، وهنا أصبح التصميمُ الأخير شبيه بالتصميم الأولي.
ظهرت لعبة (L)عبر القصة التالية: على مائدة العشاء في جامعة كامبردج تناول النقاش صعوبة اللعب بالشطرنج مع الكمبيوتر لِمَا للعبة من عدد كبير من الأحجار والعدد الهائل للحركات المحتملة. فاقتُرح البحث عن رقعة لعب بسيطة، ممتعة وتتطلب مهارة في اللعب. وفي صباح اليوم التالي وجد أحد الحضور قطعة بلاستيكية مربعة الشكل في جيب معطفه فتوجه تفكيره نحو اللعب العشوائي وخطر بباله عدد كبير من الأفكار، استبعد مالايصلح منها كي لايقترح تجريبها في النادي. وظهرت عشوائياً لعبة L وهي أبسط لعبة مهارة وتُلعب على الشكل التالي: لكلِّ لاعب قطعة واحدة على شكل L يناور فيها على رقعةٍ مُقسَّمَةٍ لمربعات بهدف محاصرة قطعة الخصم. تحتاج هذه اللعبة لمهارة عالية لأنها تحتوي على 1800 موقع لعب، لكنها بسيطة التعلُّم. حققت هذه اللعبة حرية اللعب مع البساطة وباستخدام أداة واحدة.
قد يصعب على المرء اللعب بدون هدف لأنه غير مفيد من حيث الظاهر ولايمكن للإنسان أن يتصور ثمرته الواعدة. احتاجت إحدى التجارب على جهاز البول معدات دقيقة وبترتيب خاص لنظام النضح. وتبين في النهاية إمكانية إجراء التجربة ببساطة متناهية من خلال استخدام مؤشر فقط كأهم أداة في الجهاز. تمت التجربة من خلال رفع ضغط الدم ضمن الكلية عن طريق تنقيص التدفق منها وبشكل متقطع بدلاً من زيادة التدفق إليها كما كان يجري عادةً. لقد ظهرت هذه الفكرة عن طريق لعب عشوائي بالماء والأنابيب منذ سنتين وفي مجال مختلف تماماً. الغريب في هذا المثال أن تجربة مماثلة أُجريت بالتدفق المستمر ولم تُجْدِ نفعاً ولو توفرت هذه المعلومة عند تلك التجربة لَمَا أُجريت هذه التجربة على الإطلاق.
في معظم الأمثلة السابقة استطاع مثير الفكرة أن يبدأ سلسلة من الأفكار الجديدة. هل ننتظر الصدفة؟ أم نعرِّض أنفسنا لمثيرات عشوائية؟ بدلاً من كل هذا نستطيع أن نبقى مع أحد جوانب البيئة من حولنا حتى نكتشف ما يحتويه ذلك الجانب من قضايا تخص المسألة التي نتناولها. وعلينا اختيار الجانب البيئوي عشوائياً دون النظر لعلاقته بالمسألة المطروحة. ومن الأمثلة على هذا هو تعطيل عمل السيارة خوفاً من سرقتها بواسطة مفتاح مطابق لمفتاحها الأصلي. بدأت المحاولة باستخدام دبوس عادي دون تصور عن كيفية عمله أو علاقته بالمسألة. وبعد دقائق ظهرت علاقته بالحل وهي دخوله في القفل بحيث لا يسمح لمفتاح آخر بالدخول. وعندما يفتحها صاحبها يستخدم مغناطيساً لسحب الدبوس من القفل.
أعلنت إحدى المجلات عن مسابقة لابتكار أداة تتسلق الجدار وتتابع طريقها على السقف فكانت اللعبة المسماة " سوزي " وكانت ناجحة تماماً. لكن ذات صباح تبين أن لفافة ورق المرحاض لها علاقة بالإلصاق والتثبيت ثم ساهمت هذه اللفافة بالشكل اللولبي الذي تحول إلى طريقة فعالة في جمع الإطار اللاصق مع الأداة كما أنه يزيد من إلتصاقها عند صعودها الجدار.
لنأخذ مثالاً آخر أكثر تعقيداً. ألحَّت الحاجة إلى ابتكار أذرع ميكانيكية تساعد في إجراء التجارب فتكون أداة مسك مرنة تأخذ أشكالاً مختلفة ثم تتصلب لتنفذ عملية المسك. كانت الأداة المتوفرة ذلك الحين تُثَبَّت ببزال لكنها مزعجة ولا تفي بالغرض. وبعد تجريب المغناطيس في التثبيت عاد المجربون إلى طريقة البزال. ثم لعبت الصدفة دورها عندما لاحظ أحدهم شريط كروماتوغرافي (وهو ورق شبيه بورق تجفيف الحبر). وتبين أنه يتمتع بمرونة تجعله يلتف بسهولة حول الشيء وبقسوة كافية لمسك ذلك الشيء. وتكفي عدة طبقات منه لمنع أي حركة. لكن الصعوبة في استخدامه كانت في السماح للآلة بالتحرك بحرية ثم جعل الورق قاسياً في لحظة معينة. بدت المشكلة مستحيلة الحل في باديء الأمر حتى خطرت فكرة تثبيت شريط الورق عن طريق المص. وكان هذا بوضع الورق في أنبوب مطاطي نحيف مغلق من جهة ومفتوح من الجهة الأخرى. وعن طريق المص يتم رص الورق وتماسكه بعد أن كان مرناً.
احتاجت إحدى المجلات لألعاب جديدة. وكانت قد ظهرت قبل شهور فكرة استخدام سلك بيت الدجاج كأساس في استنباط لعبة منزلية. وعند ملاحظة سلة المهملات المصنوعة من شبك سلكي. عاد للذهن استخدام الشكل السداسي بطريقة مباشرة خلافاً لاستخدامه في الألعاب السابقة. أوحت سلة المهملات بالمعابر المتفرعة والملتقية. وكانت تلك المعابرأساساً يعتمد عليه اللاعب في أن يسبق بالوصول إلى الهدف. ترتكز هذه اللعبة بالدرجة الأولى على التنبؤ بحركة اللاعب الخصم ونواياه ثم على حركة اللاعب التمويهية.
من الطريف أن يتصادف حل مسألتين رياضيتين مختلفتين في آنٍ معاً. خطرت فكرة الشكل T التي ذكرناها سابقاً أثناء رسمٍ أولي لكرسي كابولي ذي الإطار الفولاذي. وفي نفس الوقت خطرت فكرة استخدام نابضية الكرسي كأداة لاختبار عمل القلب. هناك حقيقة تقول أن الجسم يكتسب عزماً خفيفاً عند كل نبضة قلب، ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في الموازين الحساسة عندما يتعدى المؤشر الوزنَ الحقيقي مدفوعاً بالقوة التي نزلت على الميزان. تبين أن كرسي المكتب أدق من أي أداة ظهرت في الشهور الأخيرة. ولإستخدام هذه الطريقة يجلس المريض على الكرسي فيظهر أثر العزم الذي يكتسبه جسمه مع كل نبضة من قلبه. باستخدام آلية المسنن الذي صُنِعَ أصلاً لمشجب الستائر أو لخيط صنارة صيد السمك. ارتبط الكرسي بأداة حساسة ترصد أية حركة مهما كانت صغيرة، ثم تعرضها على الورق. وعند فصل المسنن يُسْتَبْعَدُ المؤشر الحساس عن أي تأثير لأي صدمة على الكرسي مهما كانت عنيفة. وهنا نلاحظ أن فكرة بسيطة أتت لوحدها قد حققت ما فشلت به الجهود الجبارة في هذا المجال.
غالباً ما تشكل المبادئ التي نحملها أو ما تجسده تلك المباديء عائقاً في البحث عن أشياء جديدة. كم هو ممتع أن نعثر على أشياء نحتاجها في معرض تجربتنا للأفكار. فمثلاً استخدام فنجان البيض بشكل ناجح أثناء البحث عن جسم مكافيء دوراني. وأثناء البحث عن شبكة تمنع الرغوة في مؤكسج الفقاعات، تم استخدام مجموعة أشياء مثل غطاء بلاستيكي على شكل شبكة لحاويات الورود ومجعد شعر وسروال نايلون داخلي وجوارب نسائية من النايلون ومجلاة أواني مطبخية.
وكثيراً ما نجد متعة في الأشياء ونحاول تطوير فكرة عنها. والمسألة هنا لاتقف عند علاقة الشئ بالفكرة، بل هي قضية لعب ذهني. على إحدى موائد العشاء تسلسلت الأفكار لتربط بين الخمر والسكاكين. رتب المهندس المعماري السكاكين فوق القارورة التي بقيت على حالها حتى الصباح التالي. ثم تطورت الفكرة حتى دوِّنت في كتاب بعنوان (التفكير في خمسة أيام).
وفي مناسبة أخرى أوحى منظر بالونات زاهية الألوان في إحدى الصيدليات إلى طريقةٍ لحل مسألة متداخلة ومعقدة بدأ الأخصائيون ببرمجتها على الحاسوب الآلي كطريقة وحيدة لحلها. الأمر الذي قُدِّرَت تكاليفه بمليونين ونصف المليون من الدولارات. لكن بضع قروش ثمن مجموعة بالونات قادت إلى طريقة دراسة المباديء الأساسية. طبعاً يعطي الحاسوب دقة أكبر لكنها دقة لم تكن ضرورية.
قاد مشهد أحد المدخنين إلى مسألة التدخين. ظهرت طريقتان الأولى إزالة المواد الضارة من التبغ والثانية تخفيف التدخين. أما الطريقة الأولى فاتجهت إما نحو تصفية جسيمات القطران أو محاولة تغيير التركيبة الكيميائية أو احتراقها. وربما كان من الأفضل عدم التركيز على إزالة هذه المواد بل على إضافة مواد تزيل جزءاً منها عن طريق إحداث ثقب في محور السيجارة لجعل الهواء ينسحب مع الدخان ويصبح أخف تركيزاً. ثم ظهرت فكرة فطام المدخنين عن طريق إضعاف طعمها باستمرار من خلال زيادة عدد الثقوب. ولمعرفة طريقة احتراق السيجارة ذات الثقوب تمت الإستعانة بالمكنسة الكهربائية باعتبارها شبيهة بآلية التدخين.
لو نظرنا إلى الأمور اليومية العادية من منظار حاجة معينة لوجدناها ذات فائدة مدهشة. مثال على ذلك هو الحاجة لمصدر غازي عالي الضغط يمكن تحريره بكبسة زر. لهذا الأمر علاقة بالسلاح الدفاعي الشخصي الذي ظهر من خلال تحدٍ ابتكاري. كان الحل واضحاً في انبوب مص الشراب وهو فارغ ويزود بالغاز المضغوط وبالزر المناسب. إن اعتبار انبوب المص كأداة سحب سوائل لا يؤدي إلى هذه الفكرة الجديدة، لكن وجودها بشكل محسوس أمام ناظر المتأمل جعلها تخرج عن تصنيفها المعتاد.
وربما كان من أطرف قصص التصميم هي قصة فيدي الحيوان الأليف. طُرِحَت فكرة ابتكار حيوان أليف يتناسب والحياة المعاصرة بذكائه الحيواني دون الحاجة إلى إطعامه أو إخراجه للمشوار أو حتى العناية به. أراد المصمم أن يبتكر كرة تتدحرج في المنزل وتغير اتجاهها كلما اصطدمت بشيء ما أو تعود خلفاً إذا وجدت نفسها في طريق مسدودة. يظن المبتكر أن هذا الكائن سيحتاج إلى أساليب وأدوات غاية في التعقيد، لكن سرعان ما تبين أن آليته بسيطة جداً. احتاج الأمر إلى قلم رصاص، ممحاة، قلم كروي الرأس، ومحرك لعبة كهربائية. وبقيت الصعوبة في إيجاد الكرة المناسبة. وكانت إحدى محاولات صنعها في استخدام بالون منفوخ يُغَطَّى بخطوطٍ من الورق المغرَّى ثم يفرَّغ من الهواء. وفيما بعد وُجِدت كرةٌ مناسبة وهي جزء من لعبة أطفال في واجهة أحد المحلات في شارع ليكسنغنون، نيويورك.
كثير من الأمثلة التي أدرجناها هنا يمكن الوصول إليها بشكل مقصود وعن طريق التأمل العلمي. لكن الممتع هو إيجاد التصميم بالطريقة هذه، فالكثير من الأفكار انبثقت من مكان لايتم البحث فيه. ومن السهل القول أنه يمكن للمنطق أن يحرز هذه الإنجازات بالطريقة المباشرة التي يعمل من خلالها. لكن الكثير من الأفكار ظهرت لكوننا غير ملتزمين بطريقة محددة. وكما هو الحال مع بقية أمثلة التفكير الجانبي، يمكن ان نمنطق النتيجة حال ظهورها. لم يتم وصف جميع الأدوات بالكامل في الطريقة الجانبية أما المنطقيون فيجدون فرصة التمتع في مثل هذا الوصف. المهم هنا العملية بحد ذاتها وليست النتيجة. أما اولئك الذين لايستطيعون التمييز بين العملية والنتيجة ولايأخذون بأهمية الأداة هم بلا شك يحتقرون الطريقة التي متَّع آينشتاين نفسه بها.

الفصل التاسع

ربما أعطى الفصل السابق إنطباعاً أن خير فائدة تُرْجى من التفكير الجانبي هي في مجال ابتكار الأدوات أو تصميمها. وربما أثار شعوراً أن دوره لا يشمل جميع المجالات بل يقتصر على ابتكار أدوات من هذا النوع. لكننا أكَّدنا أن الأدوات ليست لها أهمية بحد ذاتها بل هي طريقة جيدة لإظهار الجانب العملي من التفكير الجانبي.
وبما أننا استخدمنا الأفكار العلمية في شرح كيفية ظهور الأفكار الجديدة، قد يظن الكثير من القرَّاء أن التفكير الجانبي مقتصر على العاملين في البحث العلمي. لهذا السبب يرى غير المعنيين بالبحث أو الإختراع أن التفكير الجانبي ترفاً لا يعنيهم. لكن الحقيقة غير ذلك، لأن طريقة التفكير المستخدمة في القضايا العلمية أو الابتكارية البسيطة يمكن أن تنطبق على حالات أخرى لأن العملية بحد ذاتها هي الأساس، فالأم التي تضع طفلها في حظيرة اللعب كي تمنعه من تخريب شجرة الميلاد إنما تستخدم تفكيراً من نوع ما، والزوج الذي آثر وضع شجرة الميلاد في حظيرة اللعب إنما يستخدم طريقة مختلفة. ويمكن لأي منَّا أن يرى في تجربته الشخصية أمثلة لتفكيره الجانبي الذي أعطى نتيجة عظيمة.
كنت أتلقى درساً عن ضيق التفكير العمودي في الفترة التي خطرت ببالي فكرة استخدام البالونات لحل المسألة بدلاً من الحاسوب،. ثم عدت لشقتي - التي أجَّرتها لأحد أصدقائي لقضاء إجازته الأسبوعية - فوجدت مصباح القراءة معطَّلاً. سلكت سلوكا يتناسب مع ما خطر ببالي حول سبب العطل فرُحْتُ باذلاً جهداً عمودياً في التدقيق في سلامة مأخذ الكهرباء ثم غيَّرت زجاجة المصباح وتحققت من الفاصمة حتى أنني فككت المأخذ. لكن فجأةً أدركت أن صديقي - وحسب عاداته الشخصية - يمكن أن يكون قد فصل التيار من فاصمة المنزل العامة بدلاً من إطفاء المصباح. تركَّز تفكيري على المصباح وانطلقت من تلك النقطة. وهذا ما تسبب بمشكلة بسيطة عملياً. ولو أنني بدلت تركيزي من المصباح إلى عوامل أخرى كما فعل صديقي لما كانت تلك المشكلة.
من السهل أن ينجرف الإنسان مع تيار الإحتمالية العليا ويحرم نفسه من فوائد التفكير الجانبي لأنه غير مهتم بالأفكار الجديدة. لكن هل هو مستعد لقبول قيود التفكير العمودي؟ يحرم عموديو التفكير أنفسهم من الجانب العملي للتفكير الجانبي بالإضافة إلى أنهم يجلبون لأنفسهم سلبيات اتِّباعهم الإحتمالية العليا دوماً.
من السهل توقع ماسيفعله عموديو التفكير. ففي المصارعة اليابانية يستفيد المصارع من الإتجاه المتوقع لهجوم الخصم كي يحوِّل قوة ذلك الخصم ووزنه إلى عبءٍ عليه. ويستفيد من هذه الميزة سَحَرَةُ المسرح. جميع الحيل المسرحية باستثناء تلك التي تعتمد على الآلية أو خفَّة اليد، تعتمد على مبدأ توجيه تفكير الجمهور نحو الإحتمالية العليا. كان الساحر العظيم (هوديني) يتحدى الحضور بأن يقفلوا القيد على معصميه. ثم يدخل هوديني في كيس ثم يخرج مُحَرَّر اليدين. الحل هو دبوس عند مفصل القيد يسحبه هوديني بمغناطيس ويعيده ثانية.
اتبع هوديني نفس المبدأ في أحد عروضه الذي يستخدم فيه المنشار لقص فتاة من نصفها. وتجري الأمور على الشكل التالي: تستلقي فتاة ضمن صندوق على خشبة المسرح ثم يُنْصَبُ الصندوق أمام الجمهور. يفتح هوديني الجزء العلوي من الصندوق فيرى الحضور رأسها ثم يفتح الجزء السفلي ليروا قدميها. وبعد أن ينشر هوديني الصندوق من منتصفه تخرج الفتاة سليمة دون خدش. يندهش عموديو التفكير لأنه لم يدخل أحد إلى الصندوق أو يخرج منه سواها، والواضح أنها كانت في الصندوق عندما بدأ هوديني في النشر. الحقيقة أن اللعبة تمت قبل نصب الصندوق على المسرح وقبل أن يبدأ عموديو التفكير بالتفكير وبعد تحققهم من دخولها دخلت فتاة أخرى من أسفل الصندوق عبر فتحة مخصصة على خشبة المسرح. أما مايراه الجمهور في الصندوق المنتصب كان رأس الفتاة وقدمي أخرى دخلت الصندوق ليمر المنشار بينهما.

وهناك حيلة أخرى لـ هوديني يدخل فيها أربعة من الهنود معمَّمي الرؤوس وهم يحملون لوحاً زجاجياً من أطرافه الأربعة وعليه فتاة تدلّي أرجلها. يلقي هوديني شرشفاً على الفتاة ثم يسحبه برشاقة فتختفي الفتاة. وتفسير ذلك أن أحد الهنود - الذين سلَّمَ الجمهور جدلاً أنهم أربعة يتعاونون على حمل اللوح - كان هيكلاً مجوفاً تنزل فيه الفتاة وتخرج من المسرح.
تصبح هذه الحيل واضحة حال تفسيرها. لكنها غامضة مشوقة قبل ذلك خصوصاً عندما تصحب العملية كلمـات مروِّجة يطلقها ساحر المسرح تشجعهم على التركيز على الإحتمالية العليا. من الضروري لإدراك مايجري أن نتخذ طريقاً جانبياً منخفض الإحتمالية بعيداً عن الطريق العام عالي الإحتمالية. وإذا ما فقدنا التفكير الجانبي يستحيل الوصول إلى الحل عبر التفكير العمودي.
لولا استخدام هذا الجو الإصطناعي من الإحتمالية العليا، ولو لم يكن من طبع العقل استخدام الإحتمالية العليا كعادة في التفكير، لقُطِعَ رزق المخادعين والسياسيين والمروجين المحترفين في كل المجالات. ويعتمد نجاح هؤلاء على مدى قدرتهم على توجيه الجمهور نحو الإحتمالية العليا من خلال التركيز على جوانبٍ دون أخرى. وإذا قلنا أن الإحتمالية العليا هي الطريقة التي ينهجها معظم الناس نكون قد دخلنا في تعريف دائري. لكن يجب أن نعرِّفها على المستوى الوظيفي العصبي كالتالي: هي الطريق التي نراها أسهل لأننا تعودنا عليها ثم نعدِّلها حسبما يقتضيه الظرف الراهن. فالخبرة لا تتغير بسهولة أما الإحتمالات فتتغير من خلال تمركز الدوافع.
يميل الصحفيون والإعلانيون إلى استخدام التفكير الجانبي من خلال تنمية نظرة مختلفة للأشياء. يُعتَبَرُ المحامون والأطباء وإلى حدٍّ ما رجال الأعمال عموديي تفكير متزمتين لأنهم يفضلون أن تكون الأشياء حدِّية معرَّفة وتقليدية أرثوذكسية كي يستطيعون ممارسة خبرتهم وتدريبهم الفني على أكمل وجه.
أين الفنانون من التفكير الجانبي؟ أليسوا جانبيين متميزين عندما يبحثون عن نظرة جديدة للأشياء وعندما يتفانون في كسر أصول الإدراك القديمة؟ من الواضح أن التفكير الجانبي منتشر انتشاراً واسعاً في عالم الفن تحت إسم التفكير الإبداعي. وبما أن الفنان يهدف إلى تطوير إبداعٍ مُوجَّه فهو منفتح على الأفكار والصدفة وقابل للتأثُّر. يحاول الفنان أن يهرب من الأنماط المتعارف عليها باستخدام اللاعقلانية بشكل مقصود. وكثيراً ما يلجأ الفنان إلى المخدرات محاولاً رفع مستوى الوعي عنده كي يرى الأشياء بطريقة مختلفة. أليس هذا هو جوهر التفكير الجانبي؟
يواجه التفكير الفني الإبداعي مشكلة التوقف في منتصف الطريق. ولا بديل لأنصاف الموهوبين عن ذلك التوقف. يشدُّ الفنانَ تياران: الأول هو اعتبار الهروب من الأفكار القديمة فضيلة بحد ذاتها والثاني هو اعتبار الأصالة شيئاً جوهرياً. هناك حماس للهبوط من حدود النظام المتبع إلى الفوضى الكامنة اللامحدودة. ويعتبر الفنان هذا الهبوط فضيلة بحد ذاته وليس مجرد درجة أولى نحو الهدف. ليس الهدف من التفكير الجانبي مجرد الإنغماس في الفوضى بل الخروج منها بأفكار فعَّالة. الفكرة الجديدة أقرب للبساطة الكلاسيكية للشكل وأقرب لترتيبٍ بعيد عن لا شكلية الفوضى التي انبثقت منها. إن الهدف المثالي الذي نريد بلوغه عبر التفكير الجانبي هو الفكرة البسيطة في شكلها والمؤثرة في مفعولها. أنها بساطة الغنى وليس الفقر، بساطة الكمال وليس النقص. إنها البساطة الرفيعة.
ليس في الفن نقطة نهاية ملموسة لذا يسهل التوقف عند مرحلة الفوضى. فالمخترع الذي يبتكر أشياء لا تفيد الناس لا يتوقع أي مكافأة لأنه لم يصل إلى مرحلة التأثير. أما الفنان فلا يدري إن كان يغرق في الحرية أو أنه وصل إلى إعادة تركيب فعالة. ليس في الفن معيارٌ ملموسٌ يمكن اعتماده. أما الحكم الذاتي على ذلك هو مطيَّة أولئك العاجزين عن الهروب من الموروث القديم وأولئك الذين يعتبرون الهروب نهاية بحد ذاته.
من الضروري إحداث تآلف بين شيئين غريبين ومتباعدين. التباعد والغرابة بين الأشياء عنصران أساسيان من أجل الحداثة. الفكرة الجديدة ليست غريبة لأنها كاملة ومستقلة بذاتها، وهي بنفس الوقت ليست جديدة بحد ذاتها لأنها حالة مشوشة أو مخرَّبة عن الأفكار الماضية. ليس التشويه أو التخريب غاية بل وسيلة. كانت السيارات الأولى تخريباً لتصميم العربات لكنها لم تكن وحتى الآن تصميماً جديداً من حيث الجوهر. إنه التخريب المبرر الذي ينضج تدريجياً حتى يثمر فكرة جديدة. أما اعتبار التخريب بحد ذاته فكرة جديدة فهذا أمر آخر.
إذا وضعنا حصاة في إحدى أسطوانات سيارة سليمة، سيتم تخريب الأسطوانة ويصدر عن تكسُّر الحصى صوت لم نسمعه من قبل. يأخذ العقل تجاه هذه القضية مواقف متعددة منها الوقوف جانباً والإصغاء لصوت التخريب. أو يستخدم هذا الصوت في إثارة فكرة جديدة عن محرك بدون اسطوانات، أو عن الصوت النقي وأشياء أخرى كثيرة. لايخطيء الفنان الذي يخلط بين الموقفين في عالم الفن، لأن التفكير الإبداعي الحقيقي يمكن أن يكون شكلاً موهوباً للتفكير الجانبي. أما التفكير الإبداعي المزيف فهو قضية أخرى.
يتفوق العلم على الفن في هذا المجال لأن جمالية الفكرة الجديدة لاتخضع للرأي أو الموضة. وليس هناك علاقات عاطفية أو أغراض معينة في مجال العلم، فالعلم يملك بيده الحقيقة المحضة. يبدو الفرق واضحاً بين متطلبات الفن ومتطلبات العلم في أعمال ليوناردو دافينتشي. ليس هناك أي خلاف حول الجمال لديه لأن أفكاره العلمية تظهر النمط الفني للجمال. وفي رسمه للآلة الطائرة المقترحة ركَّز دافنتشي على نزول الطيار إلى الأرض أكثر من قدرة الطائرة على الطيران، واهتم في ما يمكن إدراكه أكثر مما لا يمكن إدراكه.
يتعرف الكثير من العلماء على التفكير الجانبي من خلال الفنانين لكن الكثير من الفنانين لا يحلو لهم متابعة التفكير الجانبي إلى نهايته الأخيرة. أما الذين يشعرون أن حياة الفنان بشكلها الكاريكاتيري هي التعبير الأمثل عن طريقة التفكير الجانبي لم يتمكنوا من الفهم العميق لطبيعة العملية. يهدف التفكير الجانبي إلى الهروب من سيطرة حدود وأشكال النظرة السائدة ليس بهدف عشوائية الترتيب بل للوصول إلى ترتيب أبسط. ولا فائدة من التفكير الجديد إذا أفضى إلى الترتيب القديم بشكل جديد بل يجب أن يتمتع بمرونة تكفي لخلق فكرة جديدة فعالة.
مهما كانت القناعة بالنظرة القديمة عالية تبقى لإعادة النظر متعتها الخاصة. وربما كان للفكاهة علاقة كبيرة بالتفكير الجانبي لأن الفكاهة تعتبر خرقاً للطريقة المعتادة بإدراك مفاجئ يظهر نظرةً جديدةً مع الاحتفاظ بالإحتمالية العالية للنظرة القديمة. فالنكتة لا تأتي بنقلة مفاجئة كما هو الحال في لحظة (وجدتها) eureka والتي تُكسِب النظرة الجديدة الاحتمالية العالية فور ظهورها. في الفكاهة يتأرجح العقل إلى الأمام والخلف، ويتراوح بين النظرة الواضحة والمتوقعة، ويتنقل بين النظرة الواقعية والنظرة الجديدة. ويعتمد تأثير التأرجح هذا على الدافع الذي تدور حوله الطُّرْفَة وهذا هو سبب نجاح الطُّرَفُ الجنسية أكثر من غيرها.
من كان لديه حساً فكاهياً هو أقدر من سواه على فهم طبيعة التفكير الجانبي. وما يزيد من طرافته في حديثه أو طرافته على المسرح هو أنه ينقل مستمعيه إلى أجوائه، الأمر الذي يزيد من قدرتهم على كشف نظرة بديلة ويرفع جاهزيتهم لقبول الطرق الجديدة التي يقترحها.

الفصل العاشر


 نهدف من التفكير الجانبي الوصول إلى أفكار جديدة. لكن هل نستطيع أن نهتم بتلك الأفكار بمعزل عن حاملي تلك الأفكار. المعنيون بالأفكار الجديدة لا ينتظرون تلك الأفكار، وليس هناك ما يبرر انتظارهم لأنه من السهل أن امتلاك الفكرة الجديدة لكن من الصعب الاستفادة منها. هناك حماس كبير لفكرة الأفكار الجديدة ولكن ليس لأجل تلك الأفكار لذاتها. ويشبه الموقف هنا رجلاً شكر الله على دخول الشمس إلى بيته فاستغنى عن الخروج للتمتع بها.
ينصب اهتمام الجميع على الأفكار الجديدة التطبيقية. وتتوقف فعالية الفكرة الجديدة على الشخص الذي يحكم عليها. كما يؤثر الحكم الصحيح على نجاح أو فشل الفكرة وعلى مردودها وثقة صاحبها. ويعتمد الحكم الصحيح عادةً على الخبرة السابقة وهذا ما لا يمكن استخدامه مع الأفكار الجديدة تعريفاً. فيحار العقل بين التعلُّق بالماضي الجامد من ناحية ورغبته الجامحة في استمرارية الماضي في المستقبل من ناحية أخرى. وفي الحالتين لا يحصل العقل من الأفكار الجديدة على الفائدة القصوى. يبقى الخوف من إنفاق المال على الأفكار الجديدة قائماً حتى يظهر خوفٌ من فقدان المال لظهور منافس يتبنى تلك الأفكار. فيفضِّل المصنِّع أن يقف في الدرجة الثانية خلف الميدان ليكون بعيداً بحيث يتمكن من تقييم الفكرة، وقريباً بحيث يتمكن من تلبية حاجة السوق. لوحظت هذه الظاهرة عند تطوير القلم ذا الرأس الـ فيبر والذي سوَّقته لأول مرة مؤسسة يابانية ثم اندفع الجميع لتسويقة بعدها.
عندما نتبنى فكرة جديدة يترافق خوفنا مع شعورنا بأنها قد لا تفوز في النهاية. لذلك ظهرت فكرة استخدام آلة النسخ الجافة وظلت مُهمَلة لسنوات عديدة قبل أن تثبت نجاحها الكبير. وعندما اخترع والتر هنت وإلياس هاو آلة الخياطة لم يكن أي منهما واثقاً من نجاحها مستقبلاً. أما لعبة المونوبولي وهي أنجح الألعاب المعاصرة، فقد رفضها المصنعون في بادئ الأمر قبل أن يجنوا منها ثروة طائلة. ولو لم تتحول تلك الأفكار الجديدة إلى أشياء مُصَنَّعَة لما أتينا إلى ذكرها الآن. أي أن الكثير من الأفكار نُسيَت واندثرت.
نتردد في الترحيب بالأفكار الجديدة لطالما أن الأموال التي وظفناها فيها مازالت في حيز المغامرة قبل أن تظهر نتائج تطبيقها. لا يقتصر استخدام الأفكار الجديدة على تطوير المنتجات الجديدة بل يتعداه إلى مجالات أخرى حيث توفر الفكرة الجديدة المال. وأفضل مثال على ذلك هو الاستفادة من النفايات وتبسيط التصاميم كي تصبح أقل عُرضَةً لمشاكل التجميع شرط ألا يؤثر هذا التوفير على أداء الآلة لوظيفتها. التفكير الجانبي يتعدى البحث والتطوير ليصل إلى التأثير على مجالات المناهج والتنظيم وتحليل القيمة والبحث العملياتي. يحتاج كل من هذه المجالات إلى خبرة متخصصة وتقنية محددة لكنها كلها تنضوي تحت مبدأ التحليل الفعال والفكرة الجديدة. قد يكون بعض هذه الأساليب غير قابل للتطوير من حيث الكفاءة وغير قابل للتوفير من حيث التكلفة لكن الفكرة الجديدة وبتحليلها الفعال يمكن أن تذهب عميقاً وبلا حدود في عملية التطوير لتوفر بضع دريهمات أو ملايين الدولارات. أبلغني أحد الصناعيين أن فكرة جديدة خطرت له في منتصف الليل، بلغت كلفة تنفيذها مليون جنيه استرليني لكنها وفرت على منشأته مئة مليون من الجنيهات.
لا يمكن للتفكير الأرثوذكسي التقليدي أن يسمح للتفكير الجانبي بالنمو. ولو لم تكن القدرة على توليد أفكار جديدة استعداداً طبيعياً لَمَا استمر التفكير الجانبي طيلة السنوات التي سيطر فيها التفكير العمودي. يظن معظم الناس أن الأفكار الجانبية من شأن قسم البحوث وعلى كل من يرغب بتلك الأفكار أن يؤسس مركزاً للبحوث. للأسف لا تبلغ أكبر مراكز البحوث إلى ما تصبو إليه لطالما أنها لا تتبنى الأفكار الجديدة. أما الأقسام الصغيرة والمتواضعة فربما كانت أقدر على الإنتاج طالما أنها تُعْنَى بالجديد في ظل إدارة عامة مدركة لقيمة التفكير الجانبي.
تستمر سلسلة التفاعلات في المفاعل الذري من خلال انشطار جسيم من نواة الذرة ليصطدم مع نواة ذرة أخرى مما يسبب انشطار جسيم في النواة الثانية وهكذا دواليك. وعندما تكون كتلة المادة كبيرة تتحول سلسلة التفاعل تلك إلى انفجار. تنطبق هذه العلاقة على الأفكار حيث تبدأ فكرة جديدة بسلسلة التفاعلات في نفس العقل الذي ظهرت فيه أو في عقل آخر. وغالباً ما يحصل هذا عند الإكتشاف الجوهري في مجال العلم. في المفاعل الذري تقوم قضبان من الـ كارميوم بالحدِّ من الطاقة الناتجة عندما تلتهم الجسيمات المتفجرة. وإذا تجاوز عدد القضبان عن حدِّه المطلوب تتوقف سلسلة التفاعلات ويمتنع المفاعل عن انتاج أيَّة طاقة. ويمكن تشبيه العاجزين عن فهم التفكير الجانبي بتلك القضبان التي يعتبر عددها القليل صمام أمان من الإنفجار المدمِّر، وعددها الكبير حائلاً دون إنتاج الطاقة.
ليس هناك ما يبرر عدم اكتساب عادات التفكير الجانبي. يستطيع المرء أن يكتسب قدرة على ممارسة التفكير الجانبي بسهولة كما يكتسب مهارة في الغولف أو التزلج أو ممارسة اللغة الأجنبية. ولا يمكن للمرء أن يكون خبيراً في التزلج أو في الغولف بمجرد القراءة عنهما. وليس هناك مركَّباً سحرياً نستطيع أن نستخدمه بفعالية بمجرد اطلاعنا عليه. فرغم كل ما اقترحناه من تقنيات في هذا المجال يبقى التفكير الجانبي عادةً أكثر منه معرفة لتقنية معينة. ويمكن اكتساب هذه العادة بتدرب من نوع خاص كي نتمكن من استخدام الطريقة الجانبية بشكل مقصود. وكذلك الأمر في الغولف، إذ يساهم التدريب بقدرٍ كبير، لكن الأهم هو الانتباه الفردي لتمييز الصعوبات الخاصة التي تعترض العملية.
للعقائدي المتعصب أثر كبير في هذا المجال لأنه يرى كل شيء وفق نمطٍ محدد. والالتزام معه يحدد سلوكاً معيناً مُقَيداً بمُثُلٍ ثابتة يستخدمها معياراً لتقييم النتائج. يبقى المتعصب في مأمن من كل شك أو حيرة لأنه يستبعد إمكانية الطرق الأخرى. كما أنه يخاف من تغيير موقفه كي لا يفقد حلوله السريعة والجاهزة فهو يعتبر سرعة اتخاذ القرار أهم من طبيعة القرار نفسه. حتى لو سلَّمنا بصحة هذا الموقف ولم نعتبره مجرد مبرر عجزٍ عن الأخذ بالإعتبارات اللازمة، يظل خطر تدخل التفكير الجانبي قائماً. لكن المتعصب لا يرى في هذا التدخل أوالتأثير تغييراً جوهرياً بل يعتبر اكتسابه لمهارة جانبية مجرد مكسب ليس إلاَّ.
من الصعب الخروج من نظرة معينة بحثاً عن نظرة جديدة خصوصاً عندما تكون جميع العناصر الأساسية للنظرة الجديدة قد سبق تناولها والمطلوب هو إعادة تجميع تلك العناصر. ويهدف التفكير الجانبي إلى إيجاد الطريقة الصحيحة للنظر إلى جوانب المسألة. الأمر الذي يجعلنا نكتسب وعياً إضافياً يرفع من مستوى معرفتنا. وبهذا تكتمل الفائدة من اقتران المعرفة الأساسية بالممارسة.
ظل الفيزيولوجيون ولفترة طويلة عاجزين عن فهم وظيفة العُقَدِ الطويلة المتوضِّعة في قُنًيات الكِلية حتى افترضوا أنها ناميات لا وظيفة لها. لاحظ أحد المهندسين أن تلك الناميات هي جزء من مضاعف التيار المعاكس وهو أداة هندسية معروفة تستخدم لزيادة تركيز المحلول. استطاع المهندس غير المختص أن ينظر من الخارج فيجيب على سؤال ظل لغزاً ولفترة طويلة. تشكل النظرة من الخارج إسقاطاً لخبرة خاصة على مجال مختلف، وهي غير مقيَّدة بالطريقة التي ارتبط بها أولئك القريبين من المسألة التي تلتزم أثناء تطورها بالطريقة التي نَهَجَهَا من يعيش المسألة من بدايتها. أما الناظر من الخارج فيرى المرحلة الأخيرة فقط فيكون أقدر على تناول المسألة بطريقة مختلفة. وما استخدام المستشارين في شتى المجالات إلاَّ محاولةً للاستفادة من هذه الناحية بالإضافة إلى خبرتهم العالية. للأسف لا تكفي الخبرة التخصصية في إيجاد نظرة جديدة بل تحتاج إلى تفكير جانبي.
يقـوم التفكير الجانبي بدور المثير لأجـل الشروع بسلسلة الأفكار والتفاعلات الجديدة. ونشعر أحياناً أن الفكرة قريبة منا ولا ينقصنا إلاَّ حلقة واحدة للوصول إليها. إنها الحلقة الوسيطة التي تُخْضِعُ النظرات المتباعدة ظاهرياً للمقارنة.
لكل قرار درجة معينة من عدم الثقة. وثقة القرار الذي لا يقدم بدائل محددة أنما هي ثقة ضعيفة قد تكون ناتجة عن ضعف في الخيال. أمَّا الثقة التي تعتمد على رؤية عدة بدائل ثم ترفضها كلها هي الثقة الحقيقية. ويمكن أن نستخدم في صنع القرار تفكيرَنا الجانبي أو تفكيرَ الآخر الجانبي بحيث يشكل رفض النظرة البديلة مصدر قوة للقرار. وبهذا يستطيع الحر التفكير أن ينجح في دفاعه عن الشيطان من خلال تقوية موقفه بدلاً من الارتياب بالقرار الصحيح.
لا شك أن بعض الناس مؤهلون للتفكير الجانبي أكثر من غيرهم. ولوحظ في أقسام البحوث أن هناك أصحاب فكرٍ نلجأ إليهم كلما واجهتنا مشكلة، لكننا نادراً ما نستفيد منهم الفائدة القصوى لأنهم ليسوا منظِّمون بارعون. وبما أن لديهم الكثير من الأفكار فإن الفكرة الأخيرة تجعل من تنظيم الفكرة التي سبقتها أمراً صعباً. ربما لأنهم يهتمون دائماً بالفكرة اللاحقة أكثر من اهتمامهم بالفكرة السابقة. إنهم يرغبون بالفكرة الجديدة أكثر من تطبيقها لأنهم لا يتمتعون بصفتي أحادية التفكير والإصرار أو المثابرة. لا يضع أصحاب الفكر أنفسهم في المكان الصحيح لأنهم يملكون الوسائل الكافية لإعادة النظر في جميع أفكارهم، وهم على استعداد دائم للتخلص منها. وقد تميَّز أديسون في تنظيم عمله الهادف وهذا ما وفر تربة مثالية لعبقريته المبتكِرة.
لم يصل أصحاب السلطة أو النفوذ إلى مواقعهم عبر تسهيلٍ قدمته لهم الأفكار الجديدة. فالأفكار الجديدة ليست عنصراً مساعداً لشق الطريق في ظل النظام التقليدي بل تشكل عائقاً. ولا يجزي النظام التقليدي الناس إلاَّ على ميزات مثمرة مثل المثابرة والقوة وأحادية التفكير. لهذا السبب نرى أصحاب الفكر متَّهمين بالكسل والاستهتار. وربما كان هذا صحيحاً لأن الشخص المتحمس لأفكاره الشخصية يبدي فتوراً في تنفيذ أفكار الآخرين. لذلك اعتُبِرَ جمس كلارك ماكسويل مستعصياً على التعلُّم وأُرسِلَ إلى بيته لعدم اهتمامه بالنشاطات المدرسية العادية. ولنفس السبب فشل داروين بالانتساب إلى المعهد الطبي في كامبردج. وما أكثر الموهوبين عقلياً الذين لا يُبْدون اهتماماً في التعليم الروتيني. للأسف، يُستَخدَمُ صاحب الفكر في معظم عمله لتنفيذ ما يمليه عليه المشرف الذي يحمل أفكاراً أقل من أفكاره مستوىً. إن علاقة المدير بصاحب الفكر هي أشبه بعقلية الجندب أو الفراشة، إذ يقدم صاحبُ الفكر للمديرِ خدمةً لا يدري عن وظيفتها الحقيقية. فالمديرون بحاجة لعدد قليل من أصحاب الفكر لكنهم يفشلون بالتمييز بينهم وبين المنفذين الأكفَّاء الذين يقومون بالعمل المجدي.
يحتقر أهل الفكر ما يُسمَّى بالمنفذين ذوي المهارة العالية في تطبيق أفكار من الدرجة الثانية، ويفشلون في إدراكهم لدور التنفيذ الذي يمنح أفكارهم الجديدة قيمتها. يمارس المنفذون عملهم دائماً بأفكار الدرجة الثانية ليس لعجزهم عن العمل بأفكار الدرجة الأولى بل لأنهم يركزون على تطبيق الفكرة الجديدة فهم يملكون من الهمَّة العالية ما يجعلهم يسارعون لتنفيذ الفكرة دون انتظار إلهامات أخرى، بل يشقون طريقهم الصعب في التطبيق لأنهم قادرون على ذلك. أما صاحب الفكر فيشق الطريق الأسهل نتيجة عجزه وكسله. وعلى فريق البحث العلمي أن يجمع المفكِّر والمنفِّذ ليكمِّل أحدهم الآخر. ومثال على ذلك هو تعاون المهندس المعماري الهاوي الملهم فانبراه والمهندس المنفذ الماهر هوكسمور. ولولا تعاونهما لما أنجزا قلعة هاوارد وقصر بلنهايم.
في الماضي كان يستطيع ثري من هاواي مثل الـ سير همفري دافي أن يشترك في البحث العلمي. لكن مع تزايد تكاليف التكنولوجيا أصبح من الضروري تحديد الأفكار التي سيتم إجراء التجارب عليها وتحديد الشخص الذي سيقوم بتلك التجارب. أصبح البحث خاضعاً للنظام أو المشروع ويصعب رؤيته من أي منطلق آخر. ويُعزَى تراجع هذا النظام إلى أن إدارة الأجور بيد إداريين نادراً ما يكونون أهل فكر. فأهل الفكر غير قادرين على العمل؛ ويتجنب المنفِّذون الدخول في المغامرة لأنهم يستخدمون أموال الآخرين. لهذا تُفَضَّلُ مشاريعُ البحثِ المضمونةُ النتائج والمعتمدةُ على تقارير وتكاليف محددة. من الطرق التي تجعل المشروع مضمون النتيجة هي إرجاعه إلى مشاريع مماثلة سابقة مع تغيير طفيف وبهذا تكون النتيجة محددةً سلفاً.
إن الاعتماد على مشروع سابق يجب أن يرفق بتفاصيل المشروع الجديد بجميع مراحله. لكن هناك مشاريع لا يمكن دراستها بهذا الشكل لاستحالة التنبؤ بما سيحصل ولصعوبة تخمين التقنية التي ستُسْتَخدَم خلال السنوات الثلاثة القادمة. لذلك يصعب وضع خطة ثابتة. في ظل هذه المخاوف تُحْرَمُ المشاريع المفتوحة من الدعم لأنها تعتمد على تطوير الأفكار الجديدة التي ستظهر أثناء سير العمل، في حين تحظى بالدعم تلك المشاريع المغلقة المحددة النتيجة سلفاً. كما تتفاقم المشكلة عندما تخضع حاجات البحث للضرورات الإدارية.
تناولنا في هذا الفصل الطريقة العامة في استخدام التفكير الجانبي مع معالجة الأفكار الجديدة لأَنهما لا ينفصلان عن بعضهما. ثم ناقشنا الظروف التي يكون فيها التفكير الجانبي مفيداً أو الظروف التي تناسب المفكرين الجانبيين. وما يجب مناقشته الآن هو طريقة الكشف عن المفكرين الجانبيين الفعالين لكي تتم الاستفادة منهم خير استفادة.
لا يمكن الكشف عن جانبيي التفكير من خلال اختبار الذكاء العادي وذلك بسبب طبيعتهم الخاصة ولأن الاختبارات تعتمد على تجاوب معظم الناس فتعتبر الإنسانَ ذكياً إذا ما أجاب على الأسئلة بطريقة الأذكياء الآخرين. وفي كل قضية من القضايا يُعتَبَرُ الجواب صحيحاً إذا كان أكثر معقولية أي أنه جواب الاحتمالية العليا. أما التفكير الجانبي فينتمي لفئة الاحتمالية المنخفضة فيرى الأشياء بطريقة لا يراها الآخرون. ومثال على هذه الاختبارات هو سؤال إخراج العنصر الغريب من سلسلة أشكال معينة. غالباً ما يجد الإنسان الخيالي مبررات مقبولة تجعل الشكل الذي اختاره مختلفاً بطريقةٍ لا تتفق مع الشكل المقصود من قِبَل الشخص الذي يجري الاختبار. وبناءً على ذلك نحكم على الخاضع للاختبار بالخطأ بدلاً من إعطائه درجة إضافيةً لاكتشافه جواباً إضافياً أكثر خيالية.
في استنباط اختبارات لانتقاء مفكرين يمكن الاعتماد على ملاحظة قيام الشخص بعملٍ ما وعلى كيفية تناوله للمسألة ومرونته العامة في العلاج وقدرته على تجنب الفخ.

ملخص


 من الممكن معالجة أي موضوع من خلال الانتقال الدقيق من فكرة لأخرى. فمثلاً يمكن وصف العمارة من خلال المخطط المعماري بدءاً من الأساسات تدريجياً حتى القمة وبشكل منهجي. ويمكن التعرف على العمارة بطريقة أخرى وهي التَّجوّل حولها والنظر إليها من جميع الزوايا. وبعد تركيب الصور التي جمعناها يظهر البناء على شكلٍ أكثر واقعية من دراسة المخططات. بحثنا في هذا الكتاب التفكير الجانبي على الطريقة الجانبية. وبدلاً من استخدام الطريقة المنطقية بكل ما فيها من روعة وتنميق أجرينا سلسلة من التجارب والصور وطرق العلاج على أمل إظهار طبيعة التفكير الجانبي. يقتضي إتباع هذا الأسلوب تداخلاً وتكراراً وأحيانا عدم دقة. لذلك رأينا من المناسب وضع خطوط عامة من خلال تلخيص الفكرة الرئيسية لكل فصل.
الفصل الأول: الفرق بين التفكير العمودي المباشر كاحتمالية عليا وبين التفكير الجانبي غير المباشر كاحتمالية منخفضة.
الفصل الثاني: تمنُّع الأفكار الجديدة عن الظهور من خلال الجهد العمودي الخالص
الفصل الثالث: العامل الإستقطابي عند الأفكار السائدة.
الفصل الرابع: تمرين بصري في التفكير.
الفصل الخامس: البحث المتعمَّد عن طرق تفكير مختلفة.
الفصل السادس: استبداد التفكير العمودي الذي يمنع ظهور الأفكار الجديدة.
الفصل السابع: الاستفادة من الصدفة من خلال التعريف بقيمتها، والامتناع عن التدخل، وإثارة عمليات الصدفة ثم حصاد نتاجها.
الفصل الثامن: شرح الممارسة العملية لأحد مظاهر التفكير الجانبي.
الفصل التاسع: مساوئ العمل بعيداً عن التفكير الجانبي.
الفصل العاشر: استغلال التفكير الجانبي والاستفادة من الأفكار الجديدة.
يعتبر هذا الملخص محاولة لتقسيم الموضوع، لكن ثلاثة أفكار رئيسية انتشرت في جميع فصول الكتاب وهي أسس التفكير الجانبي. إنها:
1- القيود التي يفرضها التفكير العمودي كمنهج لتوليد أفكار جديدة.
2- الاستفادة من العمليات الجانبية في توليد الأفكار الجديدة.
3- الغرض من التفكير الجانبي هو إنتاج أفكار جديدة، بسيطة، قيِّمة وفعالة.
يبدو الأسلوب الجديد مصطنعاً لأن الطريقة العمودية هي طريقة العقل الطبيعية. وريثما تصبح الطريقة الجديدة مألوفة، من المفيد اعتماد هذه القنوات المصطنعة لتحويل التيار الفكري عن مساره الطبيعي ذي الاحتمالية العليا.
أعتقد أن التفكير الجانبي يكتسب سحره من بحثه الممتع عن الأفكار الجديدة البسيطة ولأنه مشرع أبوابه للجميع سيما أنه لا يعتمد على الذكاء المحض.
إن الحاجة للتفكير الجانبي ليست في الغرابة الدلالية المعنوية لتلاعب وصفي بالألفاظ، لكنها تنبثق من النظام الوظيفي للدماغ الذي يحدد نمط التفكير. وستتم مناقشة هذه الجوانب في عمل لاحق بعد أن تعرفنا على فائدة التفكير الجانبي وهي مستقلة تماماً عن أصوله.



*     *     *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق